-
في روما القديمة، عرفت ممارسة تشريعية باسم “النسيان السياسي Damnatio memorial”- و هو مصطلح قانوني يشير إلى حق مجلس الشيوخ باتخاذ قرار بحق من يرتَكب جريمة ترقى إلى خيانة الدولة، فيُمنَع بموجب هذا القانون ذكر اسمه نهائياً، و يزال بذلك أى أثر لذكرى هذه الشخص من تاريخ روما (طبق هذا القانون عى كل من الإمبراطورين كاليجولا ونيرون). الأمر يتعلق إذاً بلعنة الذاكرة التي لا تسمح بمحو بعض الآثار مهما امتد بها الزمن.
ربما إحياءً لهذه الممارسة بشكل من الأشكال، بدأت بعض الدول الأوروبية – خلال السنوات العشرين الماضية – بدأت تشهد ظاهرة تشريعية جديدة تعرف بظاهرة “قوانين الذاكرة” (lois mémorielles). من ذلك أن البرلمان الفرنسي قد مرر مؤخرا ً أربعة قوانين من هذا النمط، و هي في مجملها تشريعات تقنن التاريخ من حيث تضمنها نظرات تأويلية للماضي. و هذه القوانين هي:
(1) قانون جيسو (Loi Gayssot) – 13 يوليو 1990:[1] ينص على المعاقبة بالحبس لمدة سنة واحدة مع توقيع غرامة مالية كبيرة لكل من ينكر وقوع المحرقة النازية لليهود (الهولوكوست Holocaust) ، باعتبارها تندرج ضمن الجرائم المرتبكة ضد الإنسانية، المنصوص عليها في المادة 9 من اتفاقية لندن بشأن تشكيل محكمة نورمبرج (8 أغسطس 1945). و قد ظهر هذا القانون لمحاربة العداء للسامية (anti-Semitism)، و أثار إصداره ضجة كبيرة من حيث كونه يشكل قيداً على حرية التعبير.
(2) قانون أرمينيا (Loi Arménie) – 29 يناير 2001:[2] نص على الاعتراف بالمذبحة التي ارتكبها جيش الدولة العثمانية بحق الأرمن في عام 1915، و اعتبارها من قبيل التطهير العرقي (genocide)، و ذلك على غرار عشرين دولة أوروبية أخرى اعترفت بعملية الإبادة بصفة رسمية. و ينص هذا القانون على معاقبة من ينكر هذه المذبحة بالحبس لمدة سنة مع دفع غرامة مقدارها 45 ألف يورو (و هي نفس العقوبة التي توقع على من ينكر المحرقة اليهودية).
(3) قانون العبودية (Loi Taubira) – 21 مايو 2001:[3] اعتبر كل من الاسترقاق و ممارسة تجارة الرقيق و الممارسات المتعلقة بهما و التي ارتكبت في القرن الخامس عشر و ما تلاه جرائم ضد الإنسانية (يلاحظ أن الاسترقاق تم تجريمه دولياً منذ عام 1945، كما أن المدى الزمني البعيد الذي يغطيه هذا القانون يعني أنه لن يكون هناك ملاحقة قانونية لأي شخص لعدم وجود أشخاص أحياء من الذين تخاطبهم نصوصه، مما يعني أن الغرض من هذا القانون اعتباري بحت، و هو تقديم ترضية معنوية لبعض الجماعات الضاغطة من الفرنسيين المنحدرين من أصول أفريقية و كاريبية).
(4) قانون إعادة التوطين (Loi Rapatriés) – 23 فبراير 2005:[4] نص على امتنان الأمة الفرنسية للأشخاص المشاركين في الوجود الفرنسي في الجزائر، المغرب، تونس و الهند الصينية و عداها من مستعمرات كانت تحت السيادة الفرنسية. و قد ألغي هذا القانون في عام 2006.
و قد صارت الصحف الفرنسية ساحة نقاش واسعة، شارك فيها الكثير من المثقفين و المؤرخين الفرنسيين بآرائهم المعارضة لظاهرة قوانين الذاكرة هذه، نظراً لأثرها السلبي من حيث تحويل الماضي إلى أداة سياسية بيد الأغلبية، من خلال الحيدة بالعملية التشريعة عن أغراضها التنظيمية الاعتيادية إلى أغراض أخرى بعيدة عن الدور الوظيفي للقوانين (كتفسير التاريخ بطريقة محرفة، تسويق ثقافة الضحية، تقييد حرية التعبير، ناهيك عن تجريم الماضي).
و على أية حال، ففرنسا ليست الدولة الأوروبية الوحيدة التي تصدر تشريعات مثيرة للجدل من هذا النوع. فلأسبانيا تجربة مماثلة. ففي أكتوبر من العام 2007، قام البرلمان الأسباني باصدار تشريع بعنوان (Ley de Memoria Histórica)[5]، و هو تشريع مبنى عل مقترح قدمه حزب العمال الاجتماعي الأسباني الذي يمثل حكومة رئيس الوزراء خوزيه زاباتيرو يقصد للتعامل مع الإرث النفسي القاسي للعهود المظلمة من التاريخ الحديث للجمهورية، من خلال التنويه بتضحيات كل من الطرفين المتحاربين في الحرب الأهلية الأسبانية (193601939)، و كذلك بضحايا العهد الدكتاتوري للجنرال فرانشيسكو فرانكو.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق