أنعى إليكم العدالة فى مصر
السادة الأساتذة الأجلاء النقيب وأعضاء مجلس النقابة العامة للمحامين بمصر
1 ـ أحييكم أطيب تحية مقرونة بعميق الاحترام فأنتم ـ كما أردتم وأرادت مصر ـ عقل المحاماة وقلب المحامين ولسانهم دفاعاً عن حريتها، وقدوة للمحامين العرب فى سائر أوطانهم، ومشاركون أساسيون للسلطة القضائية فى تحقيق العدالة، وفى تأكيد مبادئ سيادة القانون واستقلال هذه السلطة وفعاليتها، وفى كفالة حق الدفاع عن حقوق المواطنين وحرياتهم وحرماتهم.
2 ـ ومن هنا، وإذ قررت الكف عن أداء رسالة المحاماة، اعتباراً من اليوم ـ نزولاً على اعتبارات صحية لا قبل لى بتحملها ـ فقد رأيت من واجبى بهذه المناسبة، أن أتوجه بالشكر إلى هذا الحصن العتيد من حصون الحريات ـ ممثلاً فى أشخاصكم ـ على كريم وفادته لى طيلة أربعين شهرًا (منذ 31/8/1969 حتى 21/12/1972) كنت قد أُقصيت خلالها ـ بموجب قرارات مذبحة القضاء ـ عن أداء رسالتى القضائية، بما فيها الأمانة العامة لنادى القضاة، وهو والنقابة العامة للمحامين شريكان فى الدفاع عن استقلال القضاء والقضاة، وبعد أن عدت لمنصبى بحكم محكمة النقض، واستنفدت سنوات خدمتى القضائية ببلوغ السن فى منتصف عام 1991 كان لى ـ شرف العودة إلى محراب المحاماة حتى اليوم.
3 ـ ومن ثم فإننى أرى اليوم من حق مصر فى عنقي، وفى أعناقكم، أن تُجرى معاً مقارنة بين ما كان عليه حال القضاء والمحاماة فى مصر قبل تلك المذبحة من احترام وتقدير وثقة مطلقة ـ سواء فى نظر شعب مصر وقطانها أجمعين، أو فى نظر حكومات العالم بأسره وشعوبه ـ وبين ما نرى ونسمع ونقرأ اليوم من تجريح ونقد مريدين بما فيهما من مساس جسيم بكرامة مصر وقضائها ومحاميها، وبما يكاد معه السكوت عن الحق الآن، أن يبلغ مبلغ الخيانة (!)
4 ـ ذلك بأن حكومات جمهورياتنا المتعاقبة، وإن وضعت فى دساتيرها نصوصا أساسية بمبادئ سيادة القانون واستقلال القضاء وحصانته، وتحظر وتؤثم التدخل فى أية قضية أو أى شأن من شئونهم من جانب أية سلطة أو أى شخص، فإن هذه الحكومات ذاتها لم تتوقف ـ طوال هذه السنين ـ عن النص فى القوانين المنظمة للسلطة القضائية وغيرها على ما يجرد تلك النصوص من مضمونها تماما، بل ويخالفها بنصوص صريحة تصادر بها لحساب السلطة التنفيذية معظم أصول هذا الاستقلال وقواعده وضماناته، كما تسند بها بعض اختصاصات القضاء الطبيعى إلى غيره، وتصدر قرارات وتصرفات واقعية أخرى من خلال وزارة العدل، وهى أحد فروع السلطة التنفيذية، تسيطر بها على إرادة رجال السلطة القضائية وشئونهم بل وأحكامهم القضائية (!)
5 ـ فقد نصت المادة (64) من الدستور على أن (سيادة القانون أساس الحكم فى الدولة. كما نصت المادة (65) منه على أن تخضع الدولة للقانون، واستقلال القضاء وحضانته ضمانان أساسيان لحماية الحقوق والحريات، ونصت المادة (166) كذلك على أن القضاة مستقلون ولا سلطان عليهم فى قضائهم لغير القانون، ولا يجوز لأية سلطة التدخل فى القضايا أو فى شئون العدالة).
6 ـ وقد أبرزت هذه النصوص حقيقة استقلال القضاء والقضاة عن السلطتين التنفيذية والتشريعية، فحرمت عليهما التدخل فى القضايا أو فى شئون العدالة وحالت بذلك بينهما وبين القضاء حتى تكون له قيمته وجدواه، وإلا فما قيمة نصوص الدستور وما قيمة نصوص القوانين وما قيمة الحقوق والحريات إذا لم يقم على تطبيق هذه النصوص قضاة مستقلون ومحامون أحرار، وتسهر على حماية هذه الحرية وذلك الاستقلال نقابة محامين واعية وناد -وبمعنى أصح نقابة عامة للقضاة- وذلك كله لحماية حقوق المواطنين وحرياتهم؟
7 ـ ومن ثم فقد حرصت المذكرة الإيضاحية لقانون استقلال القضاء رقم 66 لسنة 1943 على التنويه بأن نصوص الدستور (لم تنشئ حقيقة استقلال القضاء، فمن طبيعة القضاء أن يكون مستقلا والأصل فيه أن يكون كذلك، وكل مساس بهذا الأصل من شأنه أن يعبث بجلال القضاء، وكل تدخل فى عمل القضاة من جانب أية سلطة من السلطتين يخل بميزان العدل ويقوض دعائم الحكم، فالعدل كما قيل قديما أساس الملك، ومن الحق أن يتساوى أمام قدس القضاء أصغر شخص فى الدولة بأكبر حاكم فيها وأن ترعى الجميع عين العدالة).
8 ـ ولذلك أيضا، فقد نصت المادة الثامنة من ذلك القانون، المقابلة للمادة (68) من قانون السلطة القضائية القائم على أن (تحدد مرتبات القضاة بجميع درجاتهم وفقا للجدول الملحق بهذا القانون، ولا يصح أن يقرر لأحد منهم مرتب بصفة شخصية ولا مرتب إضافى من أى نوع كان، أو يعامل معاملة استثنائية بأية صورة)، واستهدف هذا النص وغيره تقنين ماهو سائد فى سائر القوانين المقارنة للدول الديمقراطية، من وضع نظام إدارى ومالى خاص بالقضاة يحفظ استقلالهم ويحقق المساواة فيما بينهم، ويمكنهم من مقاومة الضغوط التى قد تمارس عليهم ويحول دون وقوعهم أسرى لمصالحهم الشخصية.
9 ـ ذلك أن تشريعات الدول الديمقراطية حقا وصدقا أرست أصول النظام المالى والإدارى لاستقلال القضاء، كما رددت هذه الأصول نصوص المواثيق والاتفاقيات الدولية والإعلانات العالمية لحقوق الإنسان ولاستقلال القضاء، فقد نصت المادة العاشرة من الإعلان العالمى لحقوق الإنسان الصادر بتاريخ 10 ديسمبر/كانون الأول 1948 على أن (لكل إنسان، على قدم المساواة التامة مع الآخرين، الحق فى أن تُنظر قضيته محكمة مستقلة ومحايدة، نظرا منصفا وعلنيا للفصل فى حقوقه والتزاماته وفى أية تهمة جزائية توجه إليه)، كما أكد الإعلان العالمى لاستقلال القضاء الصادر بمونتريال سنة 1983 ضرورة أن (يضمن القانون كفاية مرتبات القضاة المناسبة لمسئوليات مناصبهم وكرامتهم وإعادة تسوية الرواتب والمعاشات بانتظام وفق معدل ارتفاع الأسعار).
10 ـ كذلك، وللعلة ذاتها، فقد تواضعت التشريعات المقارنة للدول الديمقراطية على أنه (لا يجوز أن ينشأ بين القضاة ـ ولا بين أعضاء النيابة فيما يتولونه من سلطات التحقيق ـ أى نوع من التبعية الإدارية مهما اختلفت درجاتهم أو مستويات محاكمتهم، فكلهم قضاة مستقلون لا يتبع أحد منهم أحداً مهما علت درجته وارتفع مقامه، إنما تكون التبعية لجمعيات القضاة أنفسهم بمحاكمهم وفى توزيع العمل فيما بينهم فحسب، ولا تكون هذه التبعية لأى فرد منهم ولا من غيرهم، لأن الرئاسة الإدارية بطبيعتها تفسد مضمون العمل مهما تقيد نطاقها القانوني، كما أن التبعية الرئاسية تنطوى على معانى القهر والإخضاع وتحد من قدرة المرؤوسين على الاستقلال برأيهم والنأى عن التأثر بتعليمات الرؤساء).
11 ـ وقد عبر الإعلان العالمى لاستقلال القضاء عن تلك المعاني، بما نص عليه من وجوب استقلال القضاة تجاه زملائهم وتجاه رؤسائهم وعدم مساس أى تسلسل تنظيمى فى القضاء بحق القاضى فى إعطاء قراره بحرية تامة، وألا يكون للسلطة التنفيذية أية رقابة على الوظائف القضائية، ولا القيام بأى عمل أو تعطيل القيام بأى عمل يؤدى إلى استبعاد الحل القضائى لأحد النزاعات، أو تعطيل التنفيذ السليم لقرار إحدى المحاكم. (المبدأ 2/231).
12 ـ ولئن أفصحت المذكرة الإيضاحية لقانون استقلال القضاء (رقم 66 لسنة 1943) عن أن ما جاء به من ضمانات تشريعية لاستقلال القضاء هو مجرد خطوة على طريق هذا الاستقلال سوف تتبعها خطوات، إلا أن الحكومات المتعاقبة أخذت تنتقص من هذه الضمانات وتتحكم فى شئون رجال القضاء وإرادتهم وحريتهم بنصوص تشريعية وتطبيقات عملية مخالفة للدستور سلبت بها مضمون ذلك الاستقلال وجدواه حتى صار ذلك من العلم العام:
أ ـ ومن ذلك نص المادة (4/9) من قانون السلطة القضائية المعدل بالقانون 35 لسنة 1984 والذى صارت بموجبه السلطة التنفيذية ممثلة فى شخص وزير العدل، تنفرد بالكلمة النهائية فى ندب وتجديد ندب من تختارهم هى وحدها من مستشارى محاكم الاستئناف ليكونوا -لأى عدد من السنين- مجرد تابعين لها فى رئاسة المحاكم الابتدائية فى الإشراف على الرؤساء والقضاة، بل وأحكامهم وقراراتهم القضائية والولائية وسائر العاملين فى هذه المحاكم، بل وتنبيههم إلى ما يقع منهم مخالفا لمقتضيات وظائفهم. كما اختص هؤلاء الرؤساء فى الوقت نفسه برئاسة الدوائر القضائية فى المحكمة ذاتها.
ب ـ ومع تقادم العهد بهؤلاء الرؤساء فى مناصبهم ومزاياهم المالية والعينية، تنامت سلطاتهم المختلطة، سعة وعمقا، حتى امتدت آثارها إلى العمل القضائى ذاته، واهتزت الثقة العامة به خاصة حين يتم تعيين بعضهم محافظين، وحين تتضمن محاضر توزيع العمل بالجمعيات العمومية لبعض المحاكم دعوة كافة القضاة من أعضائها لما معناه ضرورة عرض الدعاوى الهامة المنظورة أمامهم على رئيس المحكمة للمداولة معه فور حجزها للحكم وقبل الفصل فيها، وفى ذلك ما فيه من إثم جنائى وقضائى تنص عليهما أحكام الدستور والقانون!
جـ ـ بل لقد دأب بعض وزراء العدل على التردد على بعض المحاكم وفى رفقتهم، أحيانا، رئيس مجلس القضاء الأعلي، أى رئيس محكمة النقض، وغيره من كبار رجال القضاء، حيث يستقبلون بالزغاريد فينثر الوزير المكافآت بسخاء، دون أن يكون لهذا العبث أى أصل من شيم قضاء مصر وقضاتها ولا من قيمهم ولا من تقاليدهم فى أى يوم من الأيام.
د ـ ومن ذلك أيضا، وبكل أسف، نص المادة (78) من القانون ذاته الذى أنشئت به ضمن إدارات وزارة العدل التابعة لمكتب الوزير، إدارة للتفتيش القضائى على أعمال القضاة والرؤساء بالمحاكم، وتقدير أهليتهم وصلاحيتهم ومساءلتهم وفحص وتحقيق الشكاوى التى تقدم ضدهم، واقتراح ندبهم ونقلهم وترقيتهم أو تخطيهم..إلخ. وفى كل ذلك الذى يجرى تحت سيطرة الوزير قضاء على استقلال القضاء والقضاة وسلب لإرادتهم، بل وتضييع الثقة العامة فيه.
هـ ـ ومن ذلك أيضا، نصوص المواد (93) و(125) وما بعدها التى تخول الوزير وبعض تابعيه سلطات إدارية وتأديبية على هؤلاء القضاة (!)
و ـ ومن ذلك أيضاً، تطبيقات عملية من العلم العام تم الضرب فيها عرض الحائط بالضمانات التشريعية التى تحول دون تحكم السلطة التنفيذية من خلال وزارة العدل فى مرتباتهم ومخصصاتهم بالتقتير حينا والتفريط أو الإفراط أحيانا، حتى أفسدت النظام المالى الخاص بهم، بل وبمجلس قضائهم الأعلى نفسه وأطلقت يدها فى التمييز بينهم، سواء فى توزيع ما سُمى بالحوافز ومكافآت العمل الإضافى ودورات التحكيم والكسب غير المشروع، أو فى سائر أنواع المعاملة المالية والعلاجية والاجتماعية والمزايا العينية الأخري، وذلك بصور شتي، وبالمخالفة لصريح نص المادة (68) من ذلك القانون، ولصريح نصوص جدول المرتبات والمخصصات الملحق بقانونهم، ربما يفتح الأبواب لاحتوائهم ومصادرة إرادتهم، خاصة من خلال بدعة مكاتب المتابعة، وفيما يمس مصالح السلطة التنفيذية ومصالح رجالها وتابعيهم (!)، وذلك استغلالا منها لتجميدها هذه المرتبات والمخصصات المقررة فى ذلك الجدول منذ عشرات السنين، ودون أى حرص على أن يكون تنظيم كل ذلك بالقانون حتى لا تتقيد به (!) بل لقد بلغ الأمر فى ذلك إلى حد احتفاظ الوزارة بدفتر شيكات رسمى تصرف منه بإرادتها المنفردة أى مبلغ لمن يشاء من رجال القضاء دون أية قواعد ولا رقابة ولا مساءلة ولا حساب (!)
ز ـ بل لقد عادت الوزارة لما كانت تجرى عليه فى مستهل القرن الماضى إبان سيطرة الإنجليز عليها لضمان مصالحهم من إصدار التعليمات والمنشورات لرجال القضاء، حتى أنها أفردت أحد هذه المنشورات للتنبيه على رؤساء المحاكم والقاضية بموافاتها بصور من صحف الدعاوى المدنية والجنائية التى تُرفع على شخصيات هامة مسئولة، فور تقديمها، ولم يزل هذا المنشور معمولا به فى المحاكم جميعها حتى اليوم على نحو يترك أثره الطبيعى على إرادة القضاة عند الفصل فى هذه القضايا.
13 ـ ومن خلال ذلك كله وغيره وبموجب اختصاصات إدارة التفتيش القضائى ورؤساء المحاكم، بل والتنازل غير المشروع الذى تتضمنه جميع محاضر الجمعيات العمومية للمحاكم عن أهم اختصاصاتها لرؤسائها، ساد الاعتقاد لدى الرأى العام بأن الوزارة تتحكم دائما فى توزيع العمل أمام الدوائر بالهوى والاعتبارات الشخصية التى تثير التساؤلات، وليس بقواعد موضوعية عامة مجردة كما كان عليه العمل طوال السنين الماضية، حتى طال ذلك محكمة النقض ذاتها لأول مرة فى تاريخها وكل ذلك بالمخالفة لصريح نص المادة (30) من قانون السلطة القضائية، وهو ما ترسخ معه لدى الناس أن الوزارة صارت تهيمن على القضاء والقضاة والقضايا، حتى صارت جميع الأحكام الصادرة فيما يسمى قضايا الرأى العام يتم نقضها دوما وأكثر من مرة، بل وتتعرض لانتقادات رؤساء الدول والحكومات والصحف الأجنبية حسبما سلف البيان، وبما نجم عنه تجريد سائر المحاكم والقضاة من الشعور بالاستقلال ومن شل قدرتهم الكاملة على مقاومة الضغوط التى قد تُمارس عليهم، إذ خلقت تلك الظواهر لكل منهم مصلحة ظاهرة فى اتقاء غضب السلطة التنفيذية عليه، ممثلة فى وزارة العدل، وهو ما لا يستطيع معه القاضى إصدار الحكم فى أية قضية من تلك القضايا بغير ميل حتى لو لم يضغط عليه أحد، وكل ما تقدم صار بكل أسف من العلم العام وهز الثقة العامة فى المحاكم بل ضيعها، خاصة عند تكوين كلمتها فى تلك القضايا بالذات، وجعلها تبدو، سواء فى نظر المصريين أو الأجانب، كمجرد مرافق إدارية تابعة للسلطة التنفيذية فعلا، وانسحب ذلك بداهة ومن باب أولى على النيابة العامة للأسباب ذاتها ولإصدارها منشورات إمعانا فى الخروج على الدستور والقانون، ولما تقوم عليه هذه النيابة من جمع بين سلطتى التحقيق والاتهام، مقترن بتبعية إدارية تدريجية ساحقة لإرادة المرؤوسين فيها، فضلا عن احتفالها الشاذ بشكاوى وتقارير الأجهزة الأمنية والرقابة الإدارية، بل وبعض شكاوى الأفراد التى قد يتمكنون من تقديمها لأحد كبار المسئولين وتحقيقها فى يوم تقديمها ذاته، وهو ما انعدمت معه فى نظر الناس قاطبة كافة ضمانات المساواة بين المواطنين أمام القانون والقضاء، وهو ما انتهى إلى ضياع سمعة القضاء المصرى فى نظر العالم أجمع حتى صرنا مضغة فى الأفواه، بما فيها أفواه الرئيس الأمريكى الحالى وأكثر من رئيس وزراء لإسرائيل (!)
14 ـ يؤكد ذلك كله أن النص فى الفقرتين الرابعة والخامسة من المادة التاسعة من قانون السلطة القضائية "تكون رياسة المحكمة الابتدائية بطريق الندب، من بين مستشارى محاكم الاستئناف بقرار من وزير العدل، بعد أخذ رأى مجلس القضاء الأعلي، لمدة سنة على الأكثر قابلة للتجديد -وليس بعد موافقة المجلس- وأن يكون بكل محكمة ابتدائية عدد كاف من الدوائر يرأس كل منها رئيس المحكمة أو أحد الرؤساء بها" يدل ذلك على أن السلطة التنفيذية صارت لها الكلمة النهائية فى هذا الندب المختلط بما يترتب عليه من تخويل المستشار المختار بمعرفة الوزارة وحده ولايتى الإدارة والقضاء مع رياسة دوائر المحكمة، وفى وقت واحد، إلى جانب ما يتولاه من اختصاصات أخرى رقابية وإدارية وتأديبية على جميع القضاة والرؤساء بالمحكمة وسائر موظفيها وعمالها، ناهيك عن اختصاصاته الانتخابية المستحدثة وغيرها.
15 ـ كذلك، فإن النص فى المادة 36 على أن "يكون للوزير أن يعيد إلى الجمعيات العامة للمحاكم الابتدائية ولجان الشئون الوقتية بها ما لا يرى الموافقة عليه من قراراتها لإعادة النظر فيها"، والنص فى المادة 78 وما بعدها على أن تشكل بوزارة العدل إدارة للتفتيش القضائى على أعمال القضاة والرؤساء بالمحاكم الابتدائية.. ويضع وزير العدل لائحة للتفتيش القضائي، وأخرى لتفتيش النيابات، ويخطر وزير العدل من يقدر بدرجة متوسط أو أقل من المتوسط من رجال القضاء والنيابة العامة بدرجة كفايته، وذلك بمجرد انتهاء إدارة التفتيش المختصة من تقرير كفايته.. كما يخطر من حل دورهم فى الترقية ولم تشملهم، بأسباب تخطيهم.. (م79).. ويختص الوزير كذلك بتعيين القضايا التى تُنظر وعدد الجلسات وأيام انعقادها ومن يقوم بالعمل فى أثناء العطلة القضائية (م87 و88) ويختص أيضا بتنظيم الخدمات الصحية والاجتماعية لرجال القضاء والنيابة.. وللقاضى أو عضو النيابة الذى يصاب بجرح أو بمرض بسبب أداء وظيفته استرداد مصاريف العلاج.. بقرار من الوزير.. وللوزير حق طلب إحالة القاضى للمعاش أو نقله لوظيفة غير قضائية م/91 و 111 و129 وحق الإشراف على جميع المحاكم والقضاة وأعضاء النيابة العامة م/93 و125 ولرئيس كل محكمة حق الإشراف على القضاة التابعين لها، وللوزير طلب وقف القاضى أو عضو النيابة م/97، وحق تنبيه الرؤساء بالمحاكم الابتدائية وقضاتها وأعضاء النيابة العامة كتابة بل وشفاهة إلى ما يقع منهم مخالفا لمقتضيات وظائفهم.. م/94 و126 ولرئيس المحكمة هذا الحق أيضا، وإذا تكررت المخالفة أو استمرت رفعت الدعوى التأديبية.. وتقام هذه الدعوى -ودعوى الصلاحية - بطلب من الوزير بناء على تحقيق جنائى أو إدارى يتولاه أحد نواب رئيس محكمة النقض أو رئيس محكمة استئناف، يندبه الوزير أو مستشار من إدارة التفتيش القضائي.. م/99 والنص كذلك فى المواد (5)، (6)، (8)، (9)، (11)، (12)، (13)، (29)، (58)، (62)، (76)، (92)، (110)، (116)، (125) من القانون ذاته.. وفى قرار وزير العدل رقم 4853 لسنة 1975 وسائر القرارات المعدلة على اختصاصات أخرى للوزير نفسه، كل ذلك يتضمن تخويل السلطة التنفيذية سلطات رقابية وإدارية ومالية وتأديبية، تتدخل بها فى صميم شئون العدالة والقضاء والقضاة بالمخالفة الصارخة لمؤدى ومقتضى النص فى الدستور على "مبدأ استقلال القضاء والقضاة كضمان أساسى للحقوق والحريات، وعدم جواز تدخل أية سلطة فى القضايا أو فى شئون العدالة" وبالمخالفة للقواعد والضمانات الأساسية المتعارف عليها لتنظيم هذا الاستقلال فى التشريعات المقارنة لسائر الدول الديمقراطية على نحو ما سلف البيان، وهو المعيار الذى استقرت عليه أحكام المحكمة الدستورية العليا فى رقابة المشروعية الدستورية، وهو ما أظهر فى نظر الكافة أنه أعدم فاعلية النيابة العامة والمحاكم كضمان لتحقيق العدالة خاصة فى قضايا الحقوق والحريات المتعلقة بخصوم الشخصيات الهامة المسئولة، وهذه القواعد -بإجماع الفقه المقارن- فى القمة من قواعد النظام العام، بوصفها الضمان الدستورى لحماية الحقوق والحريات، ومخالفتها تستتبع انعدام إجراءات التحقيق والمحاكمة برمتها (قارن مشروع تعديل قانون السلطة القضائية (ومذكرته الإيضاحية) الذى وضعته الجمعية العمومية لقضاة مصر منذ عام 1991، والمنشور بمجلة «القضاة» الصادرة اليوم، وما تضمنته فى صدرها من مقالات تؤكد ما سلف بما نرجو أن يحظى باهتمام مجلس النقابة الموقر).
16 ـ على أنه مما يستوقف النظر أن يكون هذا هو حال القضاء والقضاة والمتقاضين فى مصر اليوم، ولا يكون كل هم الحكومة فى هذه الايام العصيبة إلا تعيين المرأة فى وظائف القضاة! تُرى أيكون ذلك منها مجرد رضوخ لتغيير هوية المصريين والعبث بأصول مجتمعهم، وحرمان أبنائهم من التربية الصحيحة الكاملة؟ أم هو لمجرد صرف النظر ما يطالب به الكافة من استقلال القضاة وإصلاح أحواله حقا وصدقا؟
17 ـ وكانت اللجان الخمس التى يتكون منها مؤتمر العدالة الئول (المعقود عام 1986 والذى افتتحه الرئيس محمد حسنى مبارك) قد ناقشت كل ذلك فى صورته التطبيقية التى كانت سائدة آنذاك، وأصدرت هذه اللجان كافة التوصيات الواجبة لعلاج سائر مشكلات تعدد التشريع وقصوره وتنافره وغموضه وتعدد جهات القضاء، وما ينبغى اتخاذه لتيسير إجراءات التقاضى المدنية والجنائية وتصحيح نظام القضاء وشئون رجاله ودورهم فى الانتخابات العامة، واقترن كل ذلك بتوصية علنية أساسية من قضاة مصر طالبوا فيها علنا عند افتتاح المؤتمر بإنهاء حالة الطوارئ المعلنة فى كافة أرجاء الوطن، منذ بداية الجمهورية القائمة، ودون أى مبرر، وبما صار سببا آخر لتجريد نظام الحكم القائم من مشروعيته فى نظر العالم أجمع، وفى ذلك خطر عظيم على مستقبل البلاد، خاصة فى هذه الأيام التى تحتاج إلى إشراك جميع المواطنين إشراكا حقيقيا فى تولى زمام الأمور، حتى تتوقف ألسنة حكام وفلاسفة العالم من حولنا عن تناول حياتنا وحرياتنا وتشريعاتنا وسلطاتنا القضائية وأحكامها بما لا يقبلها أى مصرى غيور على وطنه وقضائه وقضاته (وثائق وتوصيات المؤتمر ملحقة بالكتاب الذهبى للمحاكم الأهلية الذى أصدره نادى القضاة فى عام 1991).
18 ـ وإذ مضت سنوات طويلة على وضع تلك التوصيات، ووضع مشروع تعديل قانون السلطة القضائية المشار إليه، واستجدت خلال تلك السنوات تطبيقات صارخة فى مخالفة الدستور وتضييع حقوق وضمانات المواطنين والمحامين والقضاة على نحو ما سلف البيان، فقد آن الأوان لوضع مشروع قانون شامل لتوحيد السلطة القضائية بكافة جهاتها وتحقيق الاستقلال المالى والإدارى الواجب لها، وبحيث يشمل هذا المشروع كافة القواعد المنظمة لجهات القضاء العادى والإدارى والدستوري، وكذا القواعد المنظمة لدور القضاء والقضاة فى الإشراف على نزاهة الانتخابات العامة وضمان صحة نتائجها فى التعبير عن الإرادة الصحيحة للناخبين، وبحيث ينص فيه على أن يكون الاختصاص بكل من القضاء الدستورى وقضاء النقض وقضاء المحكمة الإدارية العليا منوطا بدوائر متخصصة لكل نوع منها، وتابعة لمحكمة عليا واحدة، وأن يكون اختصاص محاكم القضاء الإدارى ومحاكم الاستئناف منوطا بدوائر متخصصة بكل نوع منها كذلك وتابعة لمحاكم واحدة أيضا، وفى نظام قضائى موحد، وأن ينص فى مشروع هذا القانون كذلك على حظر ندب رجال القضاء فى أية جهة أخرى سواء بمقابل أو دون مقابل، وحظر إصدار أية تعليمات لهم من أى شخص أو جهة أو مجلس، لأن القضاة يطبقون الدستور والقانون ولا يخضعون لأية تعليمات من أحد ولو كان منهم، ومع النص فيه كذلك على إلغاء قيام النيابة العامة باختصاصات قاضى التحقيق -وهو ما تستوجبه ضرورة الفصل بين سلطتى التحقيق والاتهام الجنائيين- وغير ذلك من أمور جوهرية وتفصيلية أخرى لتنظيم توحيد القضاء العادى وقضاء مجلس الدولة والمحكمة الدستورية وإدماج النيابة الإدارية فى النيابة العامة، وإعادة الاختصاص بالفتوى والمشورة إلى هيئة قضايا الدولة، بما قد يرى معه مجلس النقابة الموقر الاشتراك مع نادى القضاة فى تشكيل لجنة بمعرفة المجلسين لوضع مشروع هذا القانون الموحد تمهيدا لمناقشته وعرضه على الجمعيتين العموميتين للنقابة والنادي، والعمل بعد ذلك على استصداره بالصيغة التى تقرها الجمعيتان العموميتان تمهيدا لتقديمه إلى السلطات المختصة فى الدولة لإقراره وإصداره، وقد يرى المجلسان من ناحية أخرى تنظيم مؤتمر جديد للعدالة من أجل تحقيق هذا الهدف الكبير.
19 ـ لذلك كله، وإبراء لذمتى أمام الله والتاريخ وأمام المجلس الموقر، رأيت أن أضع كل ما تقدم بين يدى السادة الأجلاء النقيب وأعضاء مجلس النقابة العامة للمحامين ليروا فيه رأيهم لفرط ما أعانيه وسائر الناس من الشعور بالظلم الفادح والخطر المحيق بالبلاد، والله أسأل أن يوفق المجلس الموقر والمحامين جميعهم، إلى تحريك هذا الماء الآسن إلى ما فيه خير البلاد والعباد من نهضة تشريعية وقضائية طال انتظارها دون جدوى حتى الآن، وفى ذلك الماء الآسن ما فيه من خطر عظيم على مستقبل مصر ونظام الحكم فيها.
20 ـ يقول الكواكبى (إنها قولة حق وصيحة فى واد، إن ذهبت اليوم مع الريح، فقد تذهب غدا بالأوتاد) وما أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقى إلا بالله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، والحمد لله رب العالمين.
السادة الأساتذة الأجلاء النقيب وأعضاء مجلس النقابة العامة للمحامين بمصر
1 ـ أحييكم أطيب تحية مقرونة بعميق الاحترام فأنتم ـ كما أردتم وأرادت مصر ـ عقل المحاماة وقلب المحامين ولسانهم دفاعاً عن حريتها، وقدوة للمحامين العرب فى سائر أوطانهم، ومشاركون أساسيون للسلطة القضائية فى تحقيق العدالة، وفى تأكيد مبادئ سيادة القانون واستقلال هذه السلطة وفعاليتها، وفى كفالة حق الدفاع عن حقوق المواطنين وحرياتهم وحرماتهم.
2 ـ ومن هنا، وإذ قررت الكف عن أداء رسالة المحاماة، اعتباراً من اليوم ـ نزولاً على اعتبارات صحية لا قبل لى بتحملها ـ فقد رأيت من واجبى بهذه المناسبة، أن أتوجه بالشكر إلى هذا الحصن العتيد من حصون الحريات ـ ممثلاً فى أشخاصكم ـ على كريم وفادته لى طيلة أربعين شهرًا (منذ 31/8/1969 حتى 21/12/1972) كنت قد أُقصيت خلالها ـ بموجب قرارات مذبحة القضاء ـ عن أداء رسالتى القضائية، بما فيها الأمانة العامة لنادى القضاة، وهو والنقابة العامة للمحامين شريكان فى الدفاع عن استقلال القضاء والقضاة، وبعد أن عدت لمنصبى بحكم محكمة النقض، واستنفدت سنوات خدمتى القضائية ببلوغ السن فى منتصف عام 1991 كان لى ـ شرف العودة إلى محراب المحاماة حتى اليوم.
3 ـ ومن ثم فإننى أرى اليوم من حق مصر فى عنقي، وفى أعناقكم، أن تُجرى معاً مقارنة بين ما كان عليه حال القضاء والمحاماة فى مصر قبل تلك المذبحة من احترام وتقدير وثقة مطلقة ـ سواء فى نظر شعب مصر وقطانها أجمعين، أو فى نظر حكومات العالم بأسره وشعوبه ـ وبين ما نرى ونسمع ونقرأ اليوم من تجريح ونقد مريدين بما فيهما من مساس جسيم بكرامة مصر وقضائها ومحاميها، وبما يكاد معه السكوت عن الحق الآن، أن يبلغ مبلغ الخيانة (!)
4 ـ ذلك بأن حكومات جمهورياتنا المتعاقبة، وإن وضعت فى دساتيرها نصوصا أساسية بمبادئ سيادة القانون واستقلال القضاء وحصانته، وتحظر وتؤثم التدخل فى أية قضية أو أى شأن من شئونهم من جانب أية سلطة أو أى شخص، فإن هذه الحكومات ذاتها لم تتوقف ـ طوال هذه السنين ـ عن النص فى القوانين المنظمة للسلطة القضائية وغيرها على ما يجرد تلك النصوص من مضمونها تماما، بل ويخالفها بنصوص صريحة تصادر بها لحساب السلطة التنفيذية معظم أصول هذا الاستقلال وقواعده وضماناته، كما تسند بها بعض اختصاصات القضاء الطبيعى إلى غيره، وتصدر قرارات وتصرفات واقعية أخرى من خلال وزارة العدل، وهى أحد فروع السلطة التنفيذية، تسيطر بها على إرادة رجال السلطة القضائية وشئونهم بل وأحكامهم القضائية (!)
5 ـ فقد نصت المادة (64) من الدستور على أن (سيادة القانون أساس الحكم فى الدولة. كما نصت المادة (65) منه على أن تخضع الدولة للقانون، واستقلال القضاء وحضانته ضمانان أساسيان لحماية الحقوق والحريات، ونصت المادة (166) كذلك على أن القضاة مستقلون ولا سلطان عليهم فى قضائهم لغير القانون، ولا يجوز لأية سلطة التدخل فى القضايا أو فى شئون العدالة).
6 ـ وقد أبرزت هذه النصوص حقيقة استقلال القضاء والقضاة عن السلطتين التنفيذية والتشريعية، فحرمت عليهما التدخل فى القضايا أو فى شئون العدالة وحالت بذلك بينهما وبين القضاء حتى تكون له قيمته وجدواه، وإلا فما قيمة نصوص الدستور وما قيمة نصوص القوانين وما قيمة الحقوق والحريات إذا لم يقم على تطبيق هذه النصوص قضاة مستقلون ومحامون أحرار، وتسهر على حماية هذه الحرية وذلك الاستقلال نقابة محامين واعية وناد -وبمعنى أصح نقابة عامة للقضاة- وذلك كله لحماية حقوق المواطنين وحرياتهم؟
7 ـ ومن ثم فقد حرصت المذكرة الإيضاحية لقانون استقلال القضاء رقم 66 لسنة 1943 على التنويه بأن نصوص الدستور (لم تنشئ حقيقة استقلال القضاء، فمن طبيعة القضاء أن يكون مستقلا والأصل فيه أن يكون كذلك، وكل مساس بهذا الأصل من شأنه أن يعبث بجلال القضاء، وكل تدخل فى عمل القضاة من جانب أية سلطة من السلطتين يخل بميزان العدل ويقوض دعائم الحكم، فالعدل كما قيل قديما أساس الملك، ومن الحق أن يتساوى أمام قدس القضاء أصغر شخص فى الدولة بأكبر حاكم فيها وأن ترعى الجميع عين العدالة).
8 ـ ولذلك أيضا، فقد نصت المادة الثامنة من ذلك القانون، المقابلة للمادة (68) من قانون السلطة القضائية القائم على أن (تحدد مرتبات القضاة بجميع درجاتهم وفقا للجدول الملحق بهذا القانون، ولا يصح أن يقرر لأحد منهم مرتب بصفة شخصية ولا مرتب إضافى من أى نوع كان، أو يعامل معاملة استثنائية بأية صورة)، واستهدف هذا النص وغيره تقنين ماهو سائد فى سائر القوانين المقارنة للدول الديمقراطية، من وضع نظام إدارى ومالى خاص بالقضاة يحفظ استقلالهم ويحقق المساواة فيما بينهم، ويمكنهم من مقاومة الضغوط التى قد تمارس عليهم ويحول دون وقوعهم أسرى لمصالحهم الشخصية.
9 ـ ذلك أن تشريعات الدول الديمقراطية حقا وصدقا أرست أصول النظام المالى والإدارى لاستقلال القضاء، كما رددت هذه الأصول نصوص المواثيق والاتفاقيات الدولية والإعلانات العالمية لحقوق الإنسان ولاستقلال القضاء، فقد نصت المادة العاشرة من الإعلان العالمى لحقوق الإنسان الصادر بتاريخ 10 ديسمبر/كانون الأول 1948 على أن (لكل إنسان، على قدم المساواة التامة مع الآخرين، الحق فى أن تُنظر قضيته محكمة مستقلة ومحايدة، نظرا منصفا وعلنيا للفصل فى حقوقه والتزاماته وفى أية تهمة جزائية توجه إليه)، كما أكد الإعلان العالمى لاستقلال القضاء الصادر بمونتريال سنة 1983 ضرورة أن (يضمن القانون كفاية مرتبات القضاة المناسبة لمسئوليات مناصبهم وكرامتهم وإعادة تسوية الرواتب والمعاشات بانتظام وفق معدل ارتفاع الأسعار).
10 ـ كذلك، وللعلة ذاتها، فقد تواضعت التشريعات المقارنة للدول الديمقراطية على أنه (لا يجوز أن ينشأ بين القضاة ـ ولا بين أعضاء النيابة فيما يتولونه من سلطات التحقيق ـ أى نوع من التبعية الإدارية مهما اختلفت درجاتهم أو مستويات محاكمتهم، فكلهم قضاة مستقلون لا يتبع أحد منهم أحداً مهما علت درجته وارتفع مقامه، إنما تكون التبعية لجمعيات القضاة أنفسهم بمحاكمهم وفى توزيع العمل فيما بينهم فحسب، ولا تكون هذه التبعية لأى فرد منهم ولا من غيرهم، لأن الرئاسة الإدارية بطبيعتها تفسد مضمون العمل مهما تقيد نطاقها القانوني، كما أن التبعية الرئاسية تنطوى على معانى القهر والإخضاع وتحد من قدرة المرؤوسين على الاستقلال برأيهم والنأى عن التأثر بتعليمات الرؤساء).
11 ـ وقد عبر الإعلان العالمى لاستقلال القضاء عن تلك المعاني، بما نص عليه من وجوب استقلال القضاة تجاه زملائهم وتجاه رؤسائهم وعدم مساس أى تسلسل تنظيمى فى القضاء بحق القاضى فى إعطاء قراره بحرية تامة، وألا يكون للسلطة التنفيذية أية رقابة على الوظائف القضائية، ولا القيام بأى عمل أو تعطيل القيام بأى عمل يؤدى إلى استبعاد الحل القضائى لأحد النزاعات، أو تعطيل التنفيذ السليم لقرار إحدى المحاكم. (المبدأ 2/231).
12 ـ ولئن أفصحت المذكرة الإيضاحية لقانون استقلال القضاء (رقم 66 لسنة 1943) عن أن ما جاء به من ضمانات تشريعية لاستقلال القضاء هو مجرد خطوة على طريق هذا الاستقلال سوف تتبعها خطوات، إلا أن الحكومات المتعاقبة أخذت تنتقص من هذه الضمانات وتتحكم فى شئون رجال القضاء وإرادتهم وحريتهم بنصوص تشريعية وتطبيقات عملية مخالفة للدستور سلبت بها مضمون ذلك الاستقلال وجدواه حتى صار ذلك من العلم العام:
أ ـ ومن ذلك نص المادة (4/9) من قانون السلطة القضائية المعدل بالقانون 35 لسنة 1984 والذى صارت بموجبه السلطة التنفيذية ممثلة فى شخص وزير العدل، تنفرد بالكلمة النهائية فى ندب وتجديد ندب من تختارهم هى وحدها من مستشارى محاكم الاستئناف ليكونوا -لأى عدد من السنين- مجرد تابعين لها فى رئاسة المحاكم الابتدائية فى الإشراف على الرؤساء والقضاة، بل وأحكامهم وقراراتهم القضائية والولائية وسائر العاملين فى هذه المحاكم، بل وتنبيههم إلى ما يقع منهم مخالفا لمقتضيات وظائفهم. كما اختص هؤلاء الرؤساء فى الوقت نفسه برئاسة الدوائر القضائية فى المحكمة ذاتها.
ب ـ ومع تقادم العهد بهؤلاء الرؤساء فى مناصبهم ومزاياهم المالية والعينية، تنامت سلطاتهم المختلطة، سعة وعمقا، حتى امتدت آثارها إلى العمل القضائى ذاته، واهتزت الثقة العامة به خاصة حين يتم تعيين بعضهم محافظين، وحين تتضمن محاضر توزيع العمل بالجمعيات العمومية لبعض المحاكم دعوة كافة القضاة من أعضائها لما معناه ضرورة عرض الدعاوى الهامة المنظورة أمامهم على رئيس المحكمة للمداولة معه فور حجزها للحكم وقبل الفصل فيها، وفى ذلك ما فيه من إثم جنائى وقضائى تنص عليهما أحكام الدستور والقانون!
جـ ـ بل لقد دأب بعض وزراء العدل على التردد على بعض المحاكم وفى رفقتهم، أحيانا، رئيس مجلس القضاء الأعلي، أى رئيس محكمة النقض، وغيره من كبار رجال القضاء، حيث يستقبلون بالزغاريد فينثر الوزير المكافآت بسخاء، دون أن يكون لهذا العبث أى أصل من شيم قضاء مصر وقضاتها ولا من قيمهم ولا من تقاليدهم فى أى يوم من الأيام.
د ـ ومن ذلك أيضا، وبكل أسف، نص المادة (78) من القانون ذاته الذى أنشئت به ضمن إدارات وزارة العدل التابعة لمكتب الوزير، إدارة للتفتيش القضائى على أعمال القضاة والرؤساء بالمحاكم، وتقدير أهليتهم وصلاحيتهم ومساءلتهم وفحص وتحقيق الشكاوى التى تقدم ضدهم، واقتراح ندبهم ونقلهم وترقيتهم أو تخطيهم..إلخ. وفى كل ذلك الذى يجرى تحت سيطرة الوزير قضاء على استقلال القضاء والقضاة وسلب لإرادتهم، بل وتضييع الثقة العامة فيه.
هـ ـ ومن ذلك أيضا، نصوص المواد (93) و(125) وما بعدها التى تخول الوزير وبعض تابعيه سلطات إدارية وتأديبية على هؤلاء القضاة (!)
و ـ ومن ذلك أيضاً، تطبيقات عملية من العلم العام تم الضرب فيها عرض الحائط بالضمانات التشريعية التى تحول دون تحكم السلطة التنفيذية من خلال وزارة العدل فى مرتباتهم ومخصصاتهم بالتقتير حينا والتفريط أو الإفراط أحيانا، حتى أفسدت النظام المالى الخاص بهم، بل وبمجلس قضائهم الأعلى نفسه وأطلقت يدها فى التمييز بينهم، سواء فى توزيع ما سُمى بالحوافز ومكافآت العمل الإضافى ودورات التحكيم والكسب غير المشروع، أو فى سائر أنواع المعاملة المالية والعلاجية والاجتماعية والمزايا العينية الأخري، وذلك بصور شتي، وبالمخالفة لصريح نص المادة (68) من ذلك القانون، ولصريح نصوص جدول المرتبات والمخصصات الملحق بقانونهم، ربما يفتح الأبواب لاحتوائهم ومصادرة إرادتهم، خاصة من خلال بدعة مكاتب المتابعة، وفيما يمس مصالح السلطة التنفيذية ومصالح رجالها وتابعيهم (!)، وذلك استغلالا منها لتجميدها هذه المرتبات والمخصصات المقررة فى ذلك الجدول منذ عشرات السنين، ودون أى حرص على أن يكون تنظيم كل ذلك بالقانون حتى لا تتقيد به (!) بل لقد بلغ الأمر فى ذلك إلى حد احتفاظ الوزارة بدفتر شيكات رسمى تصرف منه بإرادتها المنفردة أى مبلغ لمن يشاء من رجال القضاء دون أية قواعد ولا رقابة ولا مساءلة ولا حساب (!)
ز ـ بل لقد عادت الوزارة لما كانت تجرى عليه فى مستهل القرن الماضى إبان سيطرة الإنجليز عليها لضمان مصالحهم من إصدار التعليمات والمنشورات لرجال القضاء، حتى أنها أفردت أحد هذه المنشورات للتنبيه على رؤساء المحاكم والقاضية بموافاتها بصور من صحف الدعاوى المدنية والجنائية التى تُرفع على شخصيات هامة مسئولة، فور تقديمها، ولم يزل هذا المنشور معمولا به فى المحاكم جميعها حتى اليوم على نحو يترك أثره الطبيعى على إرادة القضاة عند الفصل فى هذه القضايا.
13 ـ ومن خلال ذلك كله وغيره وبموجب اختصاصات إدارة التفتيش القضائى ورؤساء المحاكم، بل والتنازل غير المشروع الذى تتضمنه جميع محاضر الجمعيات العمومية للمحاكم عن أهم اختصاصاتها لرؤسائها، ساد الاعتقاد لدى الرأى العام بأن الوزارة تتحكم دائما فى توزيع العمل أمام الدوائر بالهوى والاعتبارات الشخصية التى تثير التساؤلات، وليس بقواعد موضوعية عامة مجردة كما كان عليه العمل طوال السنين الماضية، حتى طال ذلك محكمة النقض ذاتها لأول مرة فى تاريخها وكل ذلك بالمخالفة لصريح نص المادة (30) من قانون السلطة القضائية، وهو ما ترسخ معه لدى الناس أن الوزارة صارت تهيمن على القضاء والقضاة والقضايا، حتى صارت جميع الأحكام الصادرة فيما يسمى قضايا الرأى العام يتم نقضها دوما وأكثر من مرة، بل وتتعرض لانتقادات رؤساء الدول والحكومات والصحف الأجنبية حسبما سلف البيان، وبما نجم عنه تجريد سائر المحاكم والقضاة من الشعور بالاستقلال ومن شل قدرتهم الكاملة على مقاومة الضغوط التى قد تُمارس عليهم، إذ خلقت تلك الظواهر لكل منهم مصلحة ظاهرة فى اتقاء غضب السلطة التنفيذية عليه، ممثلة فى وزارة العدل، وهو ما لا يستطيع معه القاضى إصدار الحكم فى أية قضية من تلك القضايا بغير ميل حتى لو لم يضغط عليه أحد، وكل ما تقدم صار بكل أسف من العلم العام وهز الثقة العامة فى المحاكم بل ضيعها، خاصة عند تكوين كلمتها فى تلك القضايا بالذات، وجعلها تبدو، سواء فى نظر المصريين أو الأجانب، كمجرد مرافق إدارية تابعة للسلطة التنفيذية فعلا، وانسحب ذلك بداهة ومن باب أولى على النيابة العامة للأسباب ذاتها ولإصدارها منشورات إمعانا فى الخروج على الدستور والقانون، ولما تقوم عليه هذه النيابة من جمع بين سلطتى التحقيق والاتهام، مقترن بتبعية إدارية تدريجية ساحقة لإرادة المرؤوسين فيها، فضلا عن احتفالها الشاذ بشكاوى وتقارير الأجهزة الأمنية والرقابة الإدارية، بل وبعض شكاوى الأفراد التى قد يتمكنون من تقديمها لأحد كبار المسئولين وتحقيقها فى يوم تقديمها ذاته، وهو ما انعدمت معه فى نظر الناس قاطبة كافة ضمانات المساواة بين المواطنين أمام القانون والقضاء، وهو ما انتهى إلى ضياع سمعة القضاء المصرى فى نظر العالم أجمع حتى صرنا مضغة فى الأفواه، بما فيها أفواه الرئيس الأمريكى الحالى وأكثر من رئيس وزراء لإسرائيل (!)
14 ـ يؤكد ذلك كله أن النص فى الفقرتين الرابعة والخامسة من المادة التاسعة من قانون السلطة القضائية "تكون رياسة المحكمة الابتدائية بطريق الندب، من بين مستشارى محاكم الاستئناف بقرار من وزير العدل، بعد أخذ رأى مجلس القضاء الأعلي، لمدة سنة على الأكثر قابلة للتجديد -وليس بعد موافقة المجلس- وأن يكون بكل محكمة ابتدائية عدد كاف من الدوائر يرأس كل منها رئيس المحكمة أو أحد الرؤساء بها" يدل ذلك على أن السلطة التنفيذية صارت لها الكلمة النهائية فى هذا الندب المختلط بما يترتب عليه من تخويل المستشار المختار بمعرفة الوزارة وحده ولايتى الإدارة والقضاء مع رياسة دوائر المحكمة، وفى وقت واحد، إلى جانب ما يتولاه من اختصاصات أخرى رقابية وإدارية وتأديبية على جميع القضاة والرؤساء بالمحكمة وسائر موظفيها وعمالها، ناهيك عن اختصاصاته الانتخابية المستحدثة وغيرها.
15 ـ كذلك، فإن النص فى المادة 36 على أن "يكون للوزير أن يعيد إلى الجمعيات العامة للمحاكم الابتدائية ولجان الشئون الوقتية بها ما لا يرى الموافقة عليه من قراراتها لإعادة النظر فيها"، والنص فى المادة 78 وما بعدها على أن تشكل بوزارة العدل إدارة للتفتيش القضائى على أعمال القضاة والرؤساء بالمحاكم الابتدائية.. ويضع وزير العدل لائحة للتفتيش القضائي، وأخرى لتفتيش النيابات، ويخطر وزير العدل من يقدر بدرجة متوسط أو أقل من المتوسط من رجال القضاء والنيابة العامة بدرجة كفايته، وذلك بمجرد انتهاء إدارة التفتيش المختصة من تقرير كفايته.. كما يخطر من حل دورهم فى الترقية ولم تشملهم، بأسباب تخطيهم.. (م79).. ويختص الوزير كذلك بتعيين القضايا التى تُنظر وعدد الجلسات وأيام انعقادها ومن يقوم بالعمل فى أثناء العطلة القضائية (م87 و88) ويختص أيضا بتنظيم الخدمات الصحية والاجتماعية لرجال القضاء والنيابة.. وللقاضى أو عضو النيابة الذى يصاب بجرح أو بمرض بسبب أداء وظيفته استرداد مصاريف العلاج.. بقرار من الوزير.. وللوزير حق طلب إحالة القاضى للمعاش أو نقله لوظيفة غير قضائية م/91 و 111 و129 وحق الإشراف على جميع المحاكم والقضاة وأعضاء النيابة العامة م/93 و125 ولرئيس كل محكمة حق الإشراف على القضاة التابعين لها، وللوزير طلب وقف القاضى أو عضو النيابة م/97، وحق تنبيه الرؤساء بالمحاكم الابتدائية وقضاتها وأعضاء النيابة العامة كتابة بل وشفاهة إلى ما يقع منهم مخالفا لمقتضيات وظائفهم.. م/94 و126 ولرئيس المحكمة هذا الحق أيضا، وإذا تكررت المخالفة أو استمرت رفعت الدعوى التأديبية.. وتقام هذه الدعوى -ودعوى الصلاحية - بطلب من الوزير بناء على تحقيق جنائى أو إدارى يتولاه أحد نواب رئيس محكمة النقض أو رئيس محكمة استئناف، يندبه الوزير أو مستشار من إدارة التفتيش القضائي.. م/99 والنص كذلك فى المواد (5)، (6)، (8)، (9)، (11)، (12)، (13)، (29)، (58)، (62)، (76)، (92)، (110)، (116)، (125) من القانون ذاته.. وفى قرار وزير العدل رقم 4853 لسنة 1975 وسائر القرارات المعدلة على اختصاصات أخرى للوزير نفسه، كل ذلك يتضمن تخويل السلطة التنفيذية سلطات رقابية وإدارية ومالية وتأديبية، تتدخل بها فى صميم شئون العدالة والقضاء والقضاة بالمخالفة الصارخة لمؤدى ومقتضى النص فى الدستور على "مبدأ استقلال القضاء والقضاة كضمان أساسى للحقوق والحريات، وعدم جواز تدخل أية سلطة فى القضايا أو فى شئون العدالة" وبالمخالفة للقواعد والضمانات الأساسية المتعارف عليها لتنظيم هذا الاستقلال فى التشريعات المقارنة لسائر الدول الديمقراطية على نحو ما سلف البيان، وهو المعيار الذى استقرت عليه أحكام المحكمة الدستورية العليا فى رقابة المشروعية الدستورية، وهو ما أظهر فى نظر الكافة أنه أعدم فاعلية النيابة العامة والمحاكم كضمان لتحقيق العدالة خاصة فى قضايا الحقوق والحريات المتعلقة بخصوم الشخصيات الهامة المسئولة، وهذه القواعد -بإجماع الفقه المقارن- فى القمة من قواعد النظام العام، بوصفها الضمان الدستورى لحماية الحقوق والحريات، ومخالفتها تستتبع انعدام إجراءات التحقيق والمحاكمة برمتها (قارن مشروع تعديل قانون السلطة القضائية (ومذكرته الإيضاحية) الذى وضعته الجمعية العمومية لقضاة مصر منذ عام 1991، والمنشور بمجلة «القضاة» الصادرة اليوم، وما تضمنته فى صدرها من مقالات تؤكد ما سلف بما نرجو أن يحظى باهتمام مجلس النقابة الموقر).
16 ـ على أنه مما يستوقف النظر أن يكون هذا هو حال القضاء والقضاة والمتقاضين فى مصر اليوم، ولا يكون كل هم الحكومة فى هذه الايام العصيبة إلا تعيين المرأة فى وظائف القضاة! تُرى أيكون ذلك منها مجرد رضوخ لتغيير هوية المصريين والعبث بأصول مجتمعهم، وحرمان أبنائهم من التربية الصحيحة الكاملة؟ أم هو لمجرد صرف النظر ما يطالب به الكافة من استقلال القضاة وإصلاح أحواله حقا وصدقا؟
17 ـ وكانت اللجان الخمس التى يتكون منها مؤتمر العدالة الئول (المعقود عام 1986 والذى افتتحه الرئيس محمد حسنى مبارك) قد ناقشت كل ذلك فى صورته التطبيقية التى كانت سائدة آنذاك، وأصدرت هذه اللجان كافة التوصيات الواجبة لعلاج سائر مشكلات تعدد التشريع وقصوره وتنافره وغموضه وتعدد جهات القضاء، وما ينبغى اتخاذه لتيسير إجراءات التقاضى المدنية والجنائية وتصحيح نظام القضاء وشئون رجاله ودورهم فى الانتخابات العامة، واقترن كل ذلك بتوصية علنية أساسية من قضاة مصر طالبوا فيها علنا عند افتتاح المؤتمر بإنهاء حالة الطوارئ المعلنة فى كافة أرجاء الوطن، منذ بداية الجمهورية القائمة، ودون أى مبرر، وبما صار سببا آخر لتجريد نظام الحكم القائم من مشروعيته فى نظر العالم أجمع، وفى ذلك خطر عظيم على مستقبل البلاد، خاصة فى هذه الأيام التى تحتاج إلى إشراك جميع المواطنين إشراكا حقيقيا فى تولى زمام الأمور، حتى تتوقف ألسنة حكام وفلاسفة العالم من حولنا عن تناول حياتنا وحرياتنا وتشريعاتنا وسلطاتنا القضائية وأحكامها بما لا يقبلها أى مصرى غيور على وطنه وقضائه وقضاته (وثائق وتوصيات المؤتمر ملحقة بالكتاب الذهبى للمحاكم الأهلية الذى أصدره نادى القضاة فى عام 1991).
18 ـ وإذ مضت سنوات طويلة على وضع تلك التوصيات، ووضع مشروع تعديل قانون السلطة القضائية المشار إليه، واستجدت خلال تلك السنوات تطبيقات صارخة فى مخالفة الدستور وتضييع حقوق وضمانات المواطنين والمحامين والقضاة على نحو ما سلف البيان، فقد آن الأوان لوضع مشروع قانون شامل لتوحيد السلطة القضائية بكافة جهاتها وتحقيق الاستقلال المالى والإدارى الواجب لها، وبحيث يشمل هذا المشروع كافة القواعد المنظمة لجهات القضاء العادى والإدارى والدستوري، وكذا القواعد المنظمة لدور القضاء والقضاة فى الإشراف على نزاهة الانتخابات العامة وضمان صحة نتائجها فى التعبير عن الإرادة الصحيحة للناخبين، وبحيث ينص فيه على أن يكون الاختصاص بكل من القضاء الدستورى وقضاء النقض وقضاء المحكمة الإدارية العليا منوطا بدوائر متخصصة لكل نوع منها، وتابعة لمحكمة عليا واحدة، وأن يكون اختصاص محاكم القضاء الإدارى ومحاكم الاستئناف منوطا بدوائر متخصصة بكل نوع منها كذلك وتابعة لمحاكم واحدة أيضا، وفى نظام قضائى موحد، وأن ينص فى مشروع هذا القانون كذلك على حظر ندب رجال القضاء فى أية جهة أخرى سواء بمقابل أو دون مقابل، وحظر إصدار أية تعليمات لهم من أى شخص أو جهة أو مجلس، لأن القضاة يطبقون الدستور والقانون ولا يخضعون لأية تعليمات من أحد ولو كان منهم، ومع النص فيه كذلك على إلغاء قيام النيابة العامة باختصاصات قاضى التحقيق -وهو ما تستوجبه ضرورة الفصل بين سلطتى التحقيق والاتهام الجنائيين- وغير ذلك من أمور جوهرية وتفصيلية أخرى لتنظيم توحيد القضاء العادى وقضاء مجلس الدولة والمحكمة الدستورية وإدماج النيابة الإدارية فى النيابة العامة، وإعادة الاختصاص بالفتوى والمشورة إلى هيئة قضايا الدولة، بما قد يرى معه مجلس النقابة الموقر الاشتراك مع نادى القضاة فى تشكيل لجنة بمعرفة المجلسين لوضع مشروع هذا القانون الموحد تمهيدا لمناقشته وعرضه على الجمعيتين العموميتين للنقابة والنادي، والعمل بعد ذلك على استصداره بالصيغة التى تقرها الجمعيتان العموميتان تمهيدا لتقديمه إلى السلطات المختصة فى الدولة لإقراره وإصداره، وقد يرى المجلسان من ناحية أخرى تنظيم مؤتمر جديد للعدالة من أجل تحقيق هذا الهدف الكبير.
19 ـ لذلك كله، وإبراء لذمتى أمام الله والتاريخ وأمام المجلس الموقر، رأيت أن أضع كل ما تقدم بين يدى السادة الأجلاء النقيب وأعضاء مجلس النقابة العامة للمحامين ليروا فيه رأيهم لفرط ما أعانيه وسائر الناس من الشعور بالظلم الفادح والخطر المحيق بالبلاد، والله أسأل أن يوفق المجلس الموقر والمحامين جميعهم، إلى تحريك هذا الماء الآسن إلى ما فيه خير البلاد والعباد من نهضة تشريعية وقضائية طال انتظارها دون جدوى حتى الآن، وفى ذلك الماء الآسن ما فيه من خطر عظيم على مستقبل مصر ونظام الحكم فيها.
20 ـ يقول الكواكبى (إنها قولة حق وصيحة فى واد، إن ذهبت اليوم مع الريح، فقد تذهب غدا بالأوتاد) وما أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقى إلا بالله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، والحمد لله رب العالمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق