منطق ارسطو
ينصب منطق أرسطو أساسا على صورة الفكر، أى على شكله الخارجى، دون إعطاء أهمية كبرى لمادة الفكر، ومعنى هذا أنه لا يدرس هذه المادة إلا باعتبارها مرجعا لهذا الفكر، فالفكرة الصحيحة هى الفكرة التى تطابق الواقع والفكرة الخاطئة هى ما لا يطابق الواقع. لكن صلة الفكرة بالواقع ما تلبث أن تضعف جدا، بمجرد أن يدخل منطق أرسطو فى طريقة تكوين القضايا،واستخراج عكسها، ونقيضها، وطريقة وضع الفياس، وأشكاله، وضروبه المنتجة وغير المنتجة… إلخ.
ملخص منطق ارسطو
من الصعب تلخيص منطق ارسطو؛ لأنه هو نفسه ملخص. لكن نقطة الصعوبة فى تناوله تأتى من جانب اللغة. فهو ملىء بالمصطلحات. وكل مصطلح فى حاجة إلى تحديد، وشرح، وأمثلة. هدفنا من التلخيص هو مجرد استحضاره فى أذهاننا، ونحن نتناول منهج البحث ،ولتبسيط عملية العرض إلى أكبر قدر ممكن، سوف نقسم حديثنا عن منطق ارسطو إلى ثلاث نقاط:
- نشأته التاريخية.
- أهم مباحثه.
- نقده.
- إيجابياته وسلبياته.
النشأة التاريخية لمنطق أرسطو
فى نهاية القرن الخامس قبل الميلاد، راح يتجول فى أسواق أثينا، عاصمة اليونان رجل، قبيح الهيئة، بسط الزي، يكاد يكون من الفقراء .وكثيراً ما استوقف الناس من كل الطبقات ،ليلقى عليهم أسئلة كانت تحيرهم بسذاجتها الظاهرة مثل: من المزمن؟ من الكافر؟ من الشريف؟ من الوضيع؟ ما الشجاعة؟ ما الجبن؟ من الحاكم؟من الحكومة؟كيف يحكم الناس؟
وفي البداية كان يحسب المخاطبون أن الأسئلة سهلة، وأنهم قادرون على إجابته عنها ببساطة، ولكنهم سرعان ما كانوا يكتشفون أنهم عاجزون عن تصور معانيها، وأشد عجزا عن تحديدها فى لغة دقيقة، وعندئذ كان يدرك الجميع أنهم أمام معلم حكيم،لا يسأل لأنه يجهل، وإنما ليطلع الآخرين على أن مبلغهم من العلم قليل، حتى بأبسط الأمور المتعارف عليها بينهم أو التى تبدو أنها كذلك.
الرجل هو سقراط. وأهل أثينا فى ذلك الوقت شعب ثرى، منتصر فى حروبه مع الفرس فخور بان خيرات العالم المادية، وكنوزه الروحية قد أصبحت ملكا له. لكن المجتمع كان مصابا بداء مدمر، هو ادعاء العلم وعدم الاعتراف بالجهل. وقد ساعد فى نشر هذا الداء طائفة من الخطباء عرفت باسم السفسطائيين، أجادوا استخدام اللغة، وأتقنوا البلاغة، وتلاعبوا بالألفاظ، حتى لقد كانوا قادرين أحيانا على إظهار الباطل فى صوره الحق.
ومن الغريب أن السفسطائيين ظهروا أمام المجتمع واثقين من أنفسهم، لا يترددون ولا يتلعثمون. وكانوا خطباء مفوهين، فسخروا الشعب، وتمكنوا من السيطرة على طبقة الحكام والقضاة، وكانوا يعلمونهم فنهم هذا مقابل أجر مادى. أما سقراط فكان على العكس من كل هذه الصفات: فهو متسائل أبدا، ومتشكك فيما لديه، وكذلك فيما لدى الآخرين، يعلن دون استحياء أنه جاهل بالموضوع الذي يناقشه، ويظهر استعداده الكامل للتخلى عما لديه من أفكار، وقبول ما لدى الخصم من أفكار تثبت أنها صحيحة، وبالإضافة إلى هذا كله، فهو ساخر ومتهكم.لكنه التهكم الذى لا يجرح الخصم بمقدار ما يطلعه على حقيقته.
ارسطو وعلم المنطق
معجزة التفكير الإغريقى، والدليل الناصع على عبقرية أرسطو، الذى أطلق عليه المسلمون «المعلم الأول» للإنسانية، وظل منطقه أساسا للدراسات الفلسفية والدينية فى أوربا حتى نهاية العصور الوسطى، وقال عنه الفيلسوف الألمانى كانط KANT لقد ولد المنطق مكتملا على يد أرسطو. ولم يطرا عليه تطور ذى أهمية من بعده أى كان أرسطو عالما وفيلسوفا.ولم تجتمع هاتان الصفتان فى أحد إلا حقق اروع الإنجازات فى تاريخ البشرية.لكن أرسطو لم يكن مجرد عالم أو فيلسوف. لقد كان عبقرياً متميزاً فى الناحيتين: فى الناحية العلمية.حيث درس علوم عصره (الطبيعة، الفلك، الحيوان، النبات… إلخ) وفى الناحية الفلسفية، استطاع أن يحلق بنظرته فوق هذه العلوم، وأن يستخلص منها منهجا يمكن تطبيقه عليها كلها.
أراد أرسطو فيما يبدو أن يزود الباحث باتهOrganonأداة تعينه على دقة لغته، ووضوح فكره، وسلامة براهينه، وصحة استنتاج. ولم يكن كما قد يظن أيه على أحد، فقد سمى هذا العلم الجديد الذى أنشأه باسم «التحليلات» أما ناشرو كتبه المنطقية وشراحها فهم الذين أطلقوا على مجموعها اسم «الأورجانون» Organon (يسميه العرب: النص) وهى كلمة يونانية تعنى الآلة، كما أنهم أطلقوا على العلم الذى يوجد فيها اسم «المنطق».
بناء منطق أرسطو
من الأفضل بدلا من أن نتحدث عن منطق أرسطو أن نعرض مباشرة لأهم مباحثه، من خلال نظرة بنائية لهيكله العام.لدينا فى منطق أرسطو ثلاثة مباحث رئيسية هى:
- التصور.
- التصديق.
- الاستدلال.
ومن الممكن أن نقابل بنفس الترتيب بين هذه المباحث الثلاثة وبين دراسة:
- اللفظ كرمز مفرد يدل على معنى واحد.
- القضية التى تربط بين لفظين، أى تتضمن حكما قابلا للصواب والخطأ.
- دراسة قضيتين فأكثر، توضعان فى ترتيب مخصوص، بحيث ينتج عنه حكم آخر.
1- مبحث التصور
فى هذا المبحث، يتمثل غرض المنطقى فى الوصول إلى أعلى درجة ممكنة من تحديد معانى الألفاظ، والصلة بينها وبين دلالاتها المفهومة منها. وفى هذا الصدد ينبغى التفرقة – فى دلالة لفظ بين مفهومه وماصدقاته. وفى مجال ترتيب المفاهيم الكلية من حيث عمومها وخصوصها، يحدد المنطق ما يسمى بالكليات الخمس وهى: الجنس، النوع، الفصل، الخاصة، العرض.
2- مبحث التصديق
هو المبحث الذي يدرس القضايا وانواعها،والقضية عبارة عن الخبر التام الذى يحتمل الصدق والكذب. ومعنى هذا المنطق انه يستبعد الجملة الاستفهامية، وعبارات التمنى، والتعجب إلخ. أما الصدق المقصود فيعني مطابقة الخبر للواقع، فى حين يعنى الكذب عدم مطابقة الخبر للواقع.على سبيل المثال جملة «الطائرة أسرع من القطار» قضية صادقة، لأن الحكم فيها مطابق للواقع. أما إذا قلنا «الفرس أسرع من القطار» فإن القضية ستكون كاذبة، لعدم مطابقة هذا الحكم للواقع.
3- مبحث الاستدلال
هذا هو المبحث الثالث والمهم فى مباحث منطق أرسطو، وهو يحتوى على الغرض الأساسى من وضعه؛ لأنه هو الذى يساعد الإنسان على الانتقال مما لديه من معلومات إلى معلومات أخرى، أو يستدل بهذه على تلك، ومن هذه الزاوية، فإنه يزيد المعرفة الإنسانية ويعمل على تطويرها. وهنا لا يستخدم المنطق القضية فى حد ذاتها، وإنما كوحدة أولية لإنشاء تركيبات أكثر تعقيدا. وهناك ثلاثة أنواع من الاستدلال:
- استدلال مباشر، وفيه ينتقل العقل ببساطة من صدق قضية أو كذبها إلى صدق قضية أخرى أو كذبها مثال: «كل مصرى إفريقى» ننتقل منها إلى (بعض المصريين أفارقة).
- الاستدلال القياسى وفيه يتم الانتقال من العلم بقضيتين (أو أكثر) إلى قضية ثالثة مثال: المعادن جيدة التوصيل للحرارة،والنحاس معدن. إذن: النحاس جيد التوصيل للحرارة.
- الاستدلال الاستقرائى ( أو الاستقراء)، وفيه ينتقل الذهن من أمثلة جزئية إلى حكم كلى ينطبق على هذه الأمثلة وعلى كل ما يشابهها.
نقد منطق أرسطو
جرت عادةديكارت الباحثين فى المنطق الحديث
على نقض المنطق القديم، باعتباره السبب الرئيسى فى تقهقر الفكر العلمى خلال ما يقرب من عشرين قرنا. ولاشك فى أن حملتهم عليه كانت عبارة عن رد فعل مساو فى القوة للسيطرة العنيفة التى ظل هذا المنطق يمارسها على مفكرى العصور الوسطى سواء فى الشرق أو فى الغرب.ومع ذلك فإن الروح العلمية نقتضى منا أن ننظر إليه بالقدر اللازم من الإنصاف، وهذا يؤدى بنا إلى الكشف عن إيجابياته، قبل أن نعرض لسلبياته.
إيجابياته
- كان للمنطق أثره الكبير فى تطوير عملية تعريف الأشياء، ومفاهيمها العامة وتحديد الألفاظ من حيث السلب والإيجاب، والجزئية والكلية… إلخ.
- ساعد كثيرا على عملية نصنيف الموجودات، عن طريق تحديد أنواع التقسيم.
- أوضح الفروق الدقيقة بين البرهان والجدل، والسفسطة.وبذلك وضع ضوابط صارمة فى مناقشة الخصوم، وتناول آرائهم.
- نبه العقل الإنسانى إلى ضرورة الانتقال التدريجي من المقدمات إلى النتائج (القياس).
- ساعد رجال الدينى على إعطاء براهينهم صبغة عقلية عامة،ويتضح ذلك من الأدلة العقلية على و جود الله، وإمكانية البعث .
سلبياته
- أنه منطق شكلى، يهتم أساسا بصورة الفكر، وعدم تناقضها مع نفسها، وبذلك لا يعطى لمادة الفكر قيمة تذكر. وقد ساعد هذا كثيرا على ابتعاد الفكر عن موضوعه، وتحولت المعرفة بالتالى إلى جدل عقلى خالص.
- أنه يهتم بذاتيات الأشياء، وتحديد جواهرها، ومن الناحية العملية، يعتبر البحث فى هذا المجال غير مفيد على الإطلاق، وأولى منه البحث عن كمية الأشياء وكيفياتها، والعلاقات التى تربطها أو تفصلها.
- تبع ذلك اهتمام المنطق الأرسطى بدراسة الثبات فى الأشياء، دون التركيز على الأعراض و الصفات المتغيرة. ومن المعروف أن العلم الحديث إنما يقوم أساسا على دراسة هذه المتغيرات.
- ساعد كثيرا على جمود الفكر الإنسانى، وذلك بصبه فى قوالب آلية رتيبة ، كما حصر أفقه فى مجال المعرفة عندما استبعد تماما قفزات الخيال التى ثبت فيما بعد أنها هى العامل الأساسى فى معظم الاكتشافات.
- يعتمد منطق أرسطو على القياس، ويعتبره أحد مفاخره، ومع ذلك فان هذا القياس لا يأتى بجديد، فعندما نقول (سقراط إنسان – وكل إنسان فان – إذن سقراط فان) نظن أننا وصلنا إلى نتيجة جديدة، ولكنها فى الواقع متضمنة وموجودة سلفا فى القضية الثانية (كل إنسان فان) وبذلك فإننا أشبه ما نكون بالذى يدور فى حلقة مفرغة.
- يدعى منطق أرسطو أنه يضع قوانين للعقل الإنسانى، وذلك فى الوقت الذى تنبع فيه هذه القوانين من العقل الإنسانى نفسه، فكيف يصبح الشىء حكما على ذاته؟ .
- عندما تطورت العلوم التجريبية (فلك، طبيعة، ميكانيكا… إلخ) ابتداء من القرن السابع عشر، فقد تطورت بعيدا عن منطق أرسطو تماما، وهذا يعنى أنها اتبعت منهجا آخر، خاصا بها، وأن منطق أرسطو لن يفيدها فى شيء.للمنطق الأرسطي وعيوبه، وكيف فشل ليبنتز من تجاوزها رغم قربه الشديد؛ فظل المنطق الأرسطي رغم كل تلك العيوب النظام المنطقي الأوحد في أوروبا حتى جاء ديكارت واستطاع كسر قيود أرسطو في الفلسفة، حيث كان له الفضل في كسر قيود أرسطو في فلسفة المنطق على يد اثنين من تلاميذه وهم أنطوان أرنولد-Antoine Arnauld وبيير نيكول-Pierre Nicole في كتابهم الشهير (Logic or the Art of Thinking) والمعروف في النظم المنطقية باسم منطق الميناء الملكي- Port Royale logic نسبة لدير الميناء الملكي في فرنسا عام 1662. ويعتبر هذا النظام المنطقي هو أساس كل النظم المنطقية الحديثة من ناحية فلسفة المنطق والفلسفة اللغوية، ولأهميته القصوى سنناقش بعض هذه الأفكار الفلسفية المستمدة من أفكار ديكارت:
- تحوَّل المنطق من علاقات بين المصطلحات النوعية إلى علاقات بين الأفكار، لأنه إذا كانت المصطلحات النوعية جزءًا من اللغة، فالأفكار هي الأساس الذي تُبنى عليه اللغة ذاتها؛ وبالتالي تحوَّل المنطق لعلاقة بين الأفكار واللغة والأشياء (أسماء وصفات) في الواقع المحيط. فاللغة تعبر عن الأفكار والأفكار تمثل العالم. وبالتالي فقد لعبت الفكرة دور المعنى المجرد في المنطق الحديث، ولكن شدد الكتاب على أنه إذا كانت العلاقة بين الأفكار والأشياء طبيعية مطلقة فإن العلاقة بين الأفكار واللغة غير طبيعية.
- أسماء الأشياء يتم التعبير عنها في اللغة بالأسماء المحددة (Singular Proper Nouns) مثل الشمس والقمر وغيرها أو بالأسماء الكلية العامة للتعبير عن الأنواع (General Common Nouns) مثل الإغريق أو الفلاسفة.
- الصفات يتم التعبير عنها في اللغة بالأسماء المجردة (Abstract Nouns) مثل العدل والقوة أو بالصفات (Adjectives) مثل عادل وقوي.
- إضافة الشرطية والروابط المنطقية.
- وضع نظرية متكاملة للتعريفات وأنواعها (Theory of Definition) للتفرقة بين الأفكار المبهمة والأفكار الواضحة، فلا نستعمل إلا الأفكار ذات التعريفات الواضحة في القضايا المنطقية.
- توضيح أنواع الجمل المنطقية -كما أوضحناها سلفًا- من مسلمات لا يتم إثباتها، وفرضيات تحتاج إلى الإثبات حتى تتحول لنظريات.
—————–
◄ اختلافات عن المنطق الحديث:
- الأسماء الكلية العامة هي صفات يُعبّر عنها بالدوال (Concept Functions) في المنطق الحديث، أما في منطق الميناء الملكي فهي مجموعة من الأشياء-Extension التي لديها تلك الصفة وفقًا لفهم معين لتلك الصفة، وبالتالي تُعامَل معاملة الأسماء المحددة- Singular Proper Nouns.
فمثلا فهم الفكرة “مثلث” يصل بنا لصفات مثل 3 خطوط و3 زوايا ولكن المجموعة التي تنتمي لها الصفات تحتوي على كل الأشياء التي تتوفر فيها تلك الصفات. وتلك المجموعة يمكن تحديدها حسب الزمان أو حسب المكان أو كفكرة مجردة. وبالتالي استطاع حل إشكالية الصفات الوجودية، ولكن ظل الارتباط بين الأشياء والصفات عن طريق تعداد أعضاء المجموعة مما يحتم علينا معرفة المجموعة ككل قبل أن نصوغ أفكارنا بالمنطق الأرسطي، وهذا الشرط صعب تحقيقه للغاية في معظم الحالات الواقعية.
- معاملة العلاقة بين الأسماء الكلية العامة (General Common Nouns) كمعاملة العلاقة بين الأسماء المحددة (Singular Proper Nouns).
ولنضرب مثال على تلك المشكلة، أحمد في الفصل الأول ومباني المدرسة تتكون من فصول، إذا مبانى المدرسة تتكون من أحمد. وهذا خطأ منطقى بسبب معاملة العلاقة بين أحمد والفصل الأول كالعلاقة بين المدرسة و”الفصول”. وتم تلافيها في المنطق الحديث بأنّ الأسماء الكلية العامة تعتبر مجموعات والعلاقة بين المجموعات تسمى جزء (Subset) تختلف عن العلاقة بين عضو ومجموعة والتي تسمى “ينتمي” (Belong To).
- المنطق الحديث يعتمد على قوانين اندماج تسمح بجمل منطقية لانهائية ترتبط مع بعضها البعض بعلاقات منطقية كي يستطيع التعبير عن أي حالة واقعية مهما بلغ تعقيدها، أما منطق الميناء الملكي فظل يعتمد على المنطق الأرسطي وبالتالي ظلت مشكلة الـ Multiple Generality موجودة.
كانت الخطوة الثالثة في الخلاص من المنطق الأرسطي، هي وضع فلسفة للمنطق الحديث تُبنى على أفكار منطق الميناء الملكي، ولكن تتحرر من قيود أرسطو الفلسفية. وقد قام بهذا برنارد بولزانو الرياضي والفيلسوف والكاهن الكاثوليكي الذي نشر فلسفته للمنطق عام 1837 في أربع مجلدات تحت عنوان نظرية العلم- Theory of Science.
أعتقد أن بولزانو اسمٌ غريب بعض الشيء على الثقافة العربية على العكس من ليبنتز، لذا سنبدأ بنبذة بسيطة عنه.
كان بولزانو أستاذًا للفلسفة اللاهوتية في جامعة براج منذ عام 1805 ثم اختير رئيسًا لقسم الفلسفة في الجامعة عام 1818 ولكن توجهاته السياسية المُحبة للسلام والمنتقدة لسياسات الحروب والداعية للإصلاحات الإقتصادية والتعليمية، تسببت في رفده من الجامعة عام 1819 وحُدد له معاش شهري، مما أعطاه الوقت للتفرغ في كتابة أفكاره ونشرها حتى مات عام 1848.
كانت نظرة بولزانو للمنطق أنه مُستقل تمامًا عن ذاتية الإنسان، وبالتالي فقد قسّم بولزانو كل العالم لثلاثة أقسام:
- الأشياء التي لها وجود خارجي في العالم، الموجودة في الزمان والمكان والخاضعة لقوانين السببية. ووضع بولزانو الأشياء المادية واللغة كجمل وكلمات في هذا القسم.
- الفكر الذي يتكون من الأفكار الذاتية والأحكام الداخلية.
- المنطق وهو قسم الأفكار الموضوعية وقواعد المنطق.
ثم أنتقل بولزانو لوضع أسس نظامه المنطقي بما يتناسب مع تقسيمه للعالم، فقدّم أفكاره الثورية في فلسفة المنطق:
- كل جملة أو إشارة أو علامة هي افتراض (proposition) والافتراض قد يصبح صوابًا أو خطأ حسب مطابقته للعالم.
- كل افتراض يحمل معنى (Meaning) وهذا المعنى هو ما يفهمه كل شخص عند استقباله للافتراض، وبالتالي فهو مُستقل تمامًا عن لغة الافتراض، وقد سمى بولزانو المعنى “الافتراض في ذاته” (proposition in itself).
- للأسف لم يتحرر بولزانو كليًا من المنطق الأرسطي، لذا فقد وضع الشكل المنطقي للافتراض على نفس شكل أرسطو عن طريقة علاقة “الإمتلاك” بين الموضوع (subject idea) والمحمول (predicate idea)؛ وبالتالي تصبح “الموضوع لديه المحمول”. ولكنه نقل من منطق الميناء الملكي أن المحمول والموضوع هم أفكار وليسوا مصطلحات نوعية، وبالتالي أصبح الافتراض علاقة بين أفكار، وأصبح الصواب والخطأ لا ينطبقان على الأفكار بل على الافتراضات. وأخذ بولزانو في كتابه في ضرب أمثلة على كيفية تحويل أنواع مختلفة من الجمل للشكل المنطقي للافتراض. ولكن أي ملاحظ يجد أن تحويلاته كانت بها العديد من الصعوبات والإبهامات.
- كما ناقشنا سابقًا مشكلة المصطلحات النوعية والحالة الوجودية عند أرسطو، فان بولزانو يجعل الافتراض علاقة بين الأفكار، مستقلة عن الأشياء. وبالتالي فقد حلّ تلك الإشكالية بأنه جعل الوجود (Existence) صفة للفكرة وبالتالي يمكن وجود أفكار لأشياء غير موجودة مثل طائر الرخ أو حصان مجنح مثلًا.
- قسم بولزانو الافتراضات إلى “سليمة عالميًا” (universally valid) وهي الافتراضات التي دائمًا ما تكون صادقة مهما كانت حالة العالم المحيط، و”خاطئة عالميًا” (universally invalid) وهي الافتراضات التي دائمًا ما تكون كاذبة، وافتراضات على “درجة من السلامة” (a degree of validity) وهي الافتراضات التي تحتاج لمطابقة حالة العالم معها. وجعل أول نوعين هما الجمل التحليلية (analytic) الواضِح صوابها وخطأها من مجرد التفكير فيها بالعقل، بعيدًا عن أي حس. والنوع الثالث هو الجمل التركيبية (Synthetic) التي تحتاج للتجربة الحسية لمعرفة صوابها أو خطأها. ونلاحظ أن هذا التقسيم مختلف عن تقسيم كانط الذي لم يُصنِف الافتراضات “الخاطئة عالميا” من الأساس.
- جعل بولزانو الافتراضات السليمة عالميا ضرورة منطقية أو حتمية منطقية (Logical Necessity)، وجعل الافتراضات الخاطئة عالميا تناقض منطقي أو استحالة منطقية (logical contradiction). وبالتالي فكل حتمية أو تناقض عند بولزانو هي نتيجة علاقة منطقية(logical consequence) وليست تجريبية أو لغوية مثل الحال قبله. لذا قال «لو المقدمات صحيحة، فلابد وأن تكون النتيجة صحيحة.» بغض النظر عن أي شيء آخر؛ وبهذا فقد خرج بولزانو بالحتمية من نطاق المشاكل المعرفية إلى المنطقية بأنه قال «كون الحقيقة مجهولة للناس لا ينفي أنها الحقيقة.» ومثال على ذلك أن مجموع درجات زوايا المثلث = 180 حتى ولو كان الجميع لا يعلم تلك الحقيقة فهي الحقيقة.
- وبخصوص الافتراضات التي على درجة من السلامة (a degree of validity) وهي الافتراضات التي نحتاج لمطابقة حالة العالم معها، فقد جعلها بولزانو في دائرة الإمكان المنطقي (Logical Possibility) أي أنها يمكن أن تحدث أو لا تحدث، أو بمعنى أخر فاحتمالية حدوثها تتراوح بين 1 في حالة الحتمية المنطقية أو 0 في حالة الاستحالة المنطقية، وكلما زادت نسبة حدوثها سابقًا فاحتمالية حدوثها مستقبلًا ترتفع.
وبهذا فقد جعل الاستقراء هو حالة خاصة من الاستنباط المنطقي بالاعتماد على احتمالية صواب الافتراض مقارنة بحالة العالم. الجدير بالذكر أن هذا الافتراض قد فتح الباب لمنطق العوالم الممكنة، أي أنه من الممكن منطقيًا أن يكون هناك عالم أخر تكون حالتك فيه مختلفة تمامًا عن حالتك في عالمنا هذا.
- تحدّث بولزانو عن “البعد الداخلي” للفكرة (internal dimension) وهي قدرة الفكرة المُعقدّة على أن تنقسم لأفكار بسيطة. ونتذكر أن فكرة التحليل عند ليبنتز هي بداية فكرة الـ(Recursion) في المنطق الحديث. ولكن نهاية التحليل تختلف عند بولزانو لأنه يعتبر الأفكار البسيطة لا يمكن تعريفها وبالتالي فلا يمكن تحليلها. وباتحاد الأفكار البسيطة في علاقات، تتكون الأفكار المعقدة. وقد نبّه بولزانو على أنه من الممكن في فكرتين معقدتين أن تتساوى الأفكار البسيطة المكونة لهما، ولكن تختلف العلاقات التي تربط تلك الأفكار البسيطة مما يُنتِج فكرتين معقدتين مختلفتين مثل “أحمد ابن والده” و “والده ابن أحمد” أو بين الرقمين 35 و53 مثلًا.
- كما تحدث أيضًا عن “البعد الخارجي” للفكرة (external dimension) وهي وجود مجموعة من الأشياء التي تمتلك تلك الفكرة. ولو قسمنا الأفكار وفقًا للبُعد الخارجي فنجد أن بعض الأفكار هي مفردة محددة (Singular) مثل مدينة أثينا أو سقراط، ونجد بعض الأفكار الأخرى عامة (General). وتنقسم الأفكار العامة إلى أفكار متناهية (Finite) مثل الإغريق أو الفلاسفة وإلى أفكار غير متناهية (Infinite). ونشير للتفريق المشابه في منطق الميناء الملكي بين مجموعة من الأشياء (Extension) التي لديها تلك الصفة والفهم المعين لتلك الصفة (Comprehension).
- لو بدّلنا الموضوع والمحمول بمتغيرات، فسنحول الافتراض المُحدد إلى شكل افتراضي مُتغيِّر (The sentential form). وبالتالي فأي عضو في مجموعة الأشياء التي لديها صفة المحمول أو الموضوع (Extension) لو وُضعَت مكان المتغير، سيجعل الافتراض صحيحًا دائمًا.
مثال: “كانط هو فيلسوف ألماني”، وإذا بدلنا “كانط” بمتغير، فسنحصل على “أ هو فيلسوف ألماني” وإذا بحثنا في مجموعة الأشياء التي لديها صفة “فيلسوف ألماني”، فسنجد هيجل ونيتشة وغيرهم. فإذا وضعنا هيجل أو نيتشة مكان كانط في الشكل الافتراضي المتغير سنحصل على “هيجل هو فيلسوف ألماني” و “نيتشة هو فيلسوف ألماني” والافتراضين كلاهما صحيحان. ووسّع بولزانو تلك الفكرة فقال «نحن نفهم معاني الأفكار من كيفية استخدامها أو في سياق معين.» وتلك الجملة أثرت بقوة على فريجى وراسل وفيتجنشتاين واضعي المنطق الحديث.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق