السبت، سبتمبر 10، 2022

عدم ملاءمة المناطق الباردة للعرب

 


شن العرب غارات كثيرة على فرنسة بعد فتحهم إسپانية، ولم يقع ما يدل على أنهم كانوا يريدون الإقامة الجدِّية بفرنسة، وفُسِّر هذا بعدم ملاءمة المناطق الباردة لهم.

والحقُّ أن الرخاء كان يصبح حليف العرب في المناطق المعتدلة الجنوبية، وأن العرب استقروا بأقصى جنوب فرنسة زمنًا طويلًا.

وكان يملِكُ بلادَ فرنسة، حين ظهر فيها العرب في القرن الثامن من الميلاد، أمراءُ يُعرَفون بالملوك الكُسالى، وكانت تأكلها الفوضى الإقطاعية، وكانت مستعدةً لتكون غنيمة لغزاة العرب الذين استولوا على أكثر مدنها الجنوبية بسهولة، ودخل العربُ قَرقَشُونة ونيم وليون وماكون وأوتون … إلخ، بالتتابع بعد أن فتحوا أربُونة من إقليم لَنْغدوكة، وحاصروا في سنة ٧٢١م مدينة طلُّوشة التي كانت عاصمة أكيتانية على غير جدوى، وانتشر العرب في جميع وادي الرون وفي دوفينة وبورغونية.

واستولى العرب بالتدريج على نصف فرنسة الحاضرة الذي يبدأ من ضفاف نهر اللُّوار وينتهي إلى مقاطعة فَرنْش كُونْتِه، ولم يَقصِد العرب الاستقرارَ بتلك البلاد، بل اكتفوا باحتلال بعض المراكز المهمة؛ لتكون قواعد يستطيعون أن يشنُّوا منها غاراتٍ جديدةً على بعض البقاع حيث يأمُلُون أن يَجدوا ما يغنَمون.

وأهم تلك الغارات هي التي كانت بقيادة عبد الرحمن الغافقي فوقَفَها شارل مارتل (قارلة) بالقرب من پواتيه سنة ٧٣٢م.

جمع عبد الرحمن الغافقي جيشًا على شيء من الأهمية في إسپانية وعَبَرَ نهر الغارون، واستولى على بوردو (برديل) على الرغم من دفاع الأكيتان والڨاسكون الذين كان يقودهم دوك أوديس، ثم توجَّه إلى پواتيه فاستغاث دوك أوديس بشارل مارتل الذي كان يُلقَّب بأمير القصر، ويمارس السلطة باسم ملكين ضعيفين من ملوك الميروڨنجيين في المقاطعتين: أُستَرازية ونُسطِريَة.

وروى أحدُ مؤرخي العرب أن كثيرًا من سنيورات الفَرَنج اشتكوا إلى شارل مارتل من الأضرار التي أحدثها المسلمون، ومن الخزي الذي يمكن أن يصيب البلاد من جرَّاء دحر أناس غير مدربين، وغير حاملين سلاحًا كافيًا؛ لمحاربين مجهَّزين بالدروع وبعدَّة الحرب الكاملة، فأجابهم شارل مارتل قائلًا: «دعوهم يصنعوا ما يشاءون، فهم الآن مستأسدون، وهم كالسيل الذي يأتي على كل ما يعترضه، وما عندهم من الحماسة والشجاعة يقوم مقام الدروع والحصون، ولكنهم إذا ما أثقلتهم الغنائم، وطاب لهم المُقام بالبيوت الجميلة، وأَلِفوا رَفاهية العيش، واستحوذ الطمع على قادتهم، ودب الشقاق في صفوفهم — زحفنا عليهم واثقين من النصر.»

fig145
شكل ٧-٥: إبريق عربي مصنوع من البلور في القرن العاشر من الميلاد (متحف اللوفر، صورة أُخذت من جريدة الفنون الجميلة).

أجل، كان رأي شارل مارتل صائبًا، غير أن الرُّعب الذي ألقاه العرب في القلوب كان من الشدة ما تُرِكوا معه يَنهبون البلاد التي قطعوها بدلًا من محاولة وَقفهم.

واستطاع عبد الرحمن الغافقي أن يسير، إذن، منتصرًا غير هَيَّاب إلى الأمام، وأن يُخرِّب الحقول الخصبة الواقعة بين مدينة بوردو ومدينة تور، وأن يأخذ غنائم كثيرةً من المدن، ونحن إذا علمنا أنه لم يكن من عادة العرب أن ينهبوا البلدان التي يرغبون في استيطانها، كما ذكرنا ذلك غير مرة، رأينا أن سلوك عبد الرحمن الغافقي يدل على أنه، بدخوله فرنسة، لم يفكر في غير الغنائم، ويتجلَّى لنا ذلك عندما نعلم أن العرب، حينما وصلوا إلى مدينة تور، كانوا مُثقلين بالغنائم وأنهم لم يستطيعوا التقدم إلا بمشقة، وأن عبد الرحمن الغافقي لمَّا عَلِم زحف شارل مارتل الذي جمع جيشًا من الممالك المتحدة تحت لواء كلوڨيس فيما سلف، فكر في الارتداد فنزل إلى پواتية واضطر إلى منازلة شارل مارتل الذي كان يَتَعَقَّبُه.

وكان جيش شارل مارتل مؤلفًا من البوغورن والألمان والغول، وكان جيش عبد الرحمن الغافقي مؤلفًا من العرب والبربر، وظلت المعركة غير حاسمة بعضَ اليوم، فلما كان المساء انفصلت فرقةٌ من جيش الفرنج لتُغِير على معسكر المسلمين، فترك المسلمون ميدان القتال ليحافظوا على غنائمهم، فأسفرت هذه الحركة الخرقاء إلى خسرانهم، فاضطروا إلى القتال متقهقرين إلى الجنوب، وقد تتبَّعهم شارل مارتل من بعيد، وحاصر أربونة غيرَ موفَّق، وأخذ ينهب البلاد المجاورة على حسب عادات ذلك الزمن، وحالف أمراءُ النصارى العربَ؛ ليتخلصوا منه، وحملوه على القتال مُرتدًا.

ولم يلبث المسلمون، بعد أن أفاقوا من تلك الضربة التي أصابهم بها شارل مارتل، أن أخذوا يستردون مراكزهم السابقة، وقد أقاموا بفرنسة قرنين بعد ذلك، وقد سَلَّم حاكم مرسيلية مقاطعة الپروڨنس إليهم في سنة ٧٣٧م، واستولَوا على الآرل، ودخلوا مقاطعة سان ترويز في سنة ٨٨٩م، ودامت إقامتهم بمقاطعة الپروڨنس إلى نهاية القرن العاشر من الميلاد، وأَوغلوا في مقاطعة الڨالة وسويسرة سنة ٩٣٥م، ورَوَى بعض المؤرخين أنهم بلغوا مدينة ميس.

fig146
شكل ٧-٦: أسلحة عربية صُنعت في مختلف الأزمنة (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).

وتُثبت إقامة العرب بفرنسة مدةً تزيد على قرنين بعد شارل مارتل أن النصر الذي أحرزه في پواتية لم يكن مهمًّا كما زعم المؤرخون، ولم يقُم إجماع هؤلاء المؤرخين الذين قَصُّوا علينا أن شارل مارتل أنقذ أوربة والنصرانية من العرب على أساس متين كما يبدو لنا، فلم تكن غزوة عبد الرحمن الغافقي سوى حملةٍ قام بها؛ لِيُمَوِّن جنوده، ويمكِّنهم من أخذ مغانم كثيرة، وما كان العرب ليفعلوا أكثر من نهب مدينة تور وبضع مدن أخرى، سواءٌ انتصر شارل مارتل أو لم ينتصر، وما كان همُّهم مصروفًا إلى غير العودة بما غنموه على أن يُعيدوا الكرَّة في سنة أخرى إلى أن يجدوا أمامهم من التحالف ما يدحرهم.

ولم يستطع شارل مارتل أن يطرد العرب من أية مدينة احتلوها عسكريًّا، واضطر شارل مارتل إلى التقهقر أمامهم تاركًا لهم ما استولوا عليه من البلدان، والنتيجة المهمة الوحيدة التي أسفر عنها انتصاره هي أنه جعل العرب أقلَّ جرأةً على غزو شمال فرنسة، ونتيجةٌ مثل هذه، وإن كانت مفيدةً، لم تكفِ لتكبير أهمية انتصار هذا القائد الفرنجي.

ويرى المؤرخون الذين يُجسِّمون قيمة انتصار شارل مارتل على العرب بالقرب من پواتية أنه لولا هذا الانتصار؛ لاستمر العرب على غزواتهم، واستولوا على أوربة، ثم يسألون مذعورين عن مصير الشعوب النصرانية لو خَفَقَت فوقها راية النبي، قال مسيو هنري مارتن في كتابه عن تاريخ فرنسة الشعبي: «لقد تقرر مصير العالم في تلك المعركة، ولو غُلِبَ الفَرَنْج فيها لكانت الأرض قبضة محمد … ولخسرت أوربة والدنيا مستقبلهما، فليس النشاط الذي يَحْفِزُ الناس إلى التقدم مما تَجِده في عبقرية المسلمين التي تتلخص في فكرتهم عن الله، وإله المسلمين قد جنح إلى العزلة والسكون بعد أن خلق العالم، وهو لا يحثُّ الناس على العمل في سبيل الرقي.»

والجواب عن ذلك هو أن النصر لو تمَّ للعرب ما طَرَأ تبديل على مقادير البلاد، فإذا ما كان العرب غالبين انتهبوا بضع مُدُن، على ما يحتمل، زيادةً على المدن التي انتهبوها كما قلنا آنفًا، ثم ارتدوا حاملين غنائمهم إلى ملجأ أمين، ثم عادوا في السنين القادمة إلى سيرتهم الأولى ريثما يلقاهم عدوٌّ قوي يَدحَرُهم كما وُفِّق له شارل مارتل.

ولكن لنفرض جدلًا أن النصارى عجزوا عن دحر العرب، وأن العرب وجدوا جوَّ شمال فرنسة غير بارد ولا ماطر كجو إسپانية فطابت لهم الإقامة الدائمة به، فماذا كان يصيب أوربة؟ كان يصيب أوربة النصرانية المتبربرة مثل ما أصاب إسپانية من الحضارة الزاهرة تحت راية النبي العربي، وكان لا يحدث في أوربة التي تكون قد هُذِّبَت ما حدث فيها من الكبائر كالحروب الدينية، وملحمة سان بارتلمي، ومظالم محاكم التفتيش … وكل ما لم يعرفه المسلمون من الوقائع التي ضَرَّجَت أوربة بالدماء عدة قرون.

ويجب أن يكون المرء جاهلًا تاريخَ حضارة العرب جهلًا مُطبِقًا؛ ليوافق على ما زعمه ذلك المؤرخ العالم من «أن النشاط الذي يحفز الناس إلى التقدم ليس مما تجده في عبقرية المسلمين»، ومن «أن أوربة والدنيا كانتا تخسران مستقبلهما»، فمزاعم مثل هذه ليست مما يقف أمام سلطان النقد عندما يُعْلَم أن التمدن اللامع حلَّ بالبلاد التي خَضَعت لأتباع الرسول محل الهمجية، وأن النشاط الذي يحفز الإنسان إلى التقدم لم يكن قويًّا في أمةٍ مثلَ قوته في العرب.

ولم يكن احتلال العرب لجنوب فرنسة عِدة قرونٍ غيرَ ذي أثرٍ ضعيف، فبما أن المدن التي استولوا عليها في جنوب فرنسة من القواعد الحربية التي كانوا يستندون إليها في غاراتهم لم يبالوا بتمدينها، ولم يكن لهم في جنوب فرنسة مراكزُ مهمةٌ للحضارة كما اتفق لهم في إسپانية وبلاد المشرق.

ومع أن إقامة العرب بفرنسة نشأت عن بعض السرايا نراهم قد تركوا أثرًا عميقًا في اللغة وفي الدم كما نذكر ذلك في فصل آخر، وذلك أنه استقرَّ أناسٌ كثيرون منهم بالأرَضين القريبة من المدن التي استولوا عليها وتَعَاطَوا فيها أمور الزراعة والصناعة، وأنهم أَدخلوا صناعة البُسُط إلى أُبُوسُون، وأنهم أدخلوا كثيرًا من أساليب الفلاحة كما عُزِي إليهم، وأنهم امتزجوا بسكان البلاد بسبب محالفاتهم الكثيرة لأمراء النصارى الإقطاعيين المتقاتلين على الدوام، وأنه وُجِدَ حَفَدةٌ للعرب في أماكن كثيرة من بلاد فرنسة كالمقاطعات: كروز والألب الأعلى ومونتمور (جبل المغاربة) وبنيو (شارانت) وبعض قرى لاند وروسيون ولنغدوكة وبيارن كما أثبت ذلك علمُ وصف الإنسان، فيمكن الإنسان أن يَعرِفهم بجلودهم السُّمر وشعورهم السود وأنوفهم القُنْو وعيونهم الثاقبة اللامعة، ويمكن المرء أن يُعرف نساءهم بألوانهن الزيتية ووجوههن الأسيلة وأعينهن النُّجْل الدُّعْج وحواجبهن الزُّجِّ وصدورهن الناهدة … إلخ، وإذا كانت هذه الصفات قد ظلت باقية فلم تمَّحِ بغَرَقها في صفات السكان المجاورين، تبعًا للسنن الإنتروپولوجية التي بيَّنَّاها، فلأن حفدة العرب أولئك ألَّفوا جماعاتٍ صغيرةً منفصلةً عن بقية الأهلين غير متصلة بهم بصلات التوالد.

fig147
شكل ٧-٧: قرب عربية (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).

انتهينا من تاريخ العرب في مختلف الأقطار التي دانت للإسلام، وعلمنا درجة اختلاف هذا التاريخ باختلاف البيئات التي أقاموا بها وبحسب مقاصدهم من الاستيلاء عليها، ورأينا أنهم ذوو أثر بالغ في تمدين الأقطار التي خضعت لهم خلا فرنسة على ما يحتمل، وأنَّ كل بلد خَفَقَت فوقه راية النبي تحول بسرعة، فازدهرت فيه العلوم والفنون والآداب والصناعة والزراعة أيما ازدهار.

ولنَدَع جانبًا بياننا المجمل الذي اقتصرنا عليه حتى الآن، ولنبدأْ بتفصيل تاريخ حضارة العرب ودرس مبتكراتهم في مختلف المعارف البشرية التي زاولوها، فمهما يكن تاريخ إحدى الأمم السياسي مبهمًا أو زاهرًا، فإن شأن هذه الأمة الحقيقيَّ في العالم يُقاس باكتشافاتها وتأثيرها في ميدان الحضارة.

ليست هناك تعليقات: