وفي 18 يونيو/حزيران عام 1956 رحل آخر جندي بريطاني من مصر، وأزالت القوات البريطانية أعلامها من آخر نقطة لها في مصر، وهو مبنى البحرية في بورسعيد، وهو أول مبنى قاموا باحتلاله عام 1882، ليكون بذلك يوم الخروج عيدا قوميا تحتفل به مصر كل عام وسمي "عيد الجلاء".
كذبت وثائق بريطانية بالغة السرية، حصلت عليها "بي بي سي" رواية لأول رئيس جمهورية في مصر، الجنرال الراحل محمد نجيب، حول مشاركة مصر في حلف عسكري مقابل جلاء القوات البريطانية المحتلة عن الأراضي المصرية.
وبحسب الوثائق البريطانية: "لو استمر نجيب في السلطة، ربما كانت للشرق الأوسط منظمة دفاعية وفق مشروع أمريكي بريطاني مشترك".
وأكد نجيب، في مذكراته "كنت رئيسا لمصر"، أنه "لم يقبل على الإطلاق مبدأ مشاركة مصر في أي حلف عسكري مقابل جلاء القوات البريطانية المحتلة عن الأراضي المصرية"، وأن الجلاء "يجب أن يتم دون أي قيد أو شرط".
وتحدث عن مقابلة أجرتها معه وكالة يونايتد برس عام 1952، وقال فيها: "أصرُّ على أن يكون الجلاء غير مشروط بشرط ما، فنحن غير مستعدين لمناقشة أي منظمة للدفاع عن الشرق الأوسط سواء كانت حلفا أم ميثاقا أم تحت أي اسم يطلق عليها".
غير أن الوثائق، تقول إن نجيب قبل، في اتصالاته مع الأمريكيين والبريطانيين، مبدأ الربط بين الجلاء ومشاركة مصر في المشروع الدفاعي الطموح.
اقرأ أيضا: رسائل رئيس مصر "محمد نجيب" تكشف أسرار حقبة عسكرية
كما تكشف الوثائق اتفاقا أمريكيا بريطانيا مشتركا على أن استمرار نجيب في السلطة "يصب في مصالح الغرب في الشرق الأوسط"، وعلى "الحرص على استمرار نظام حكمه".
واتفقت القوتان، كذلك، على "ضرورة مشاركة مصر في أي ترتيبات دفاعية في الشرق الأوسط، وفي منظمة الدفاع عن الشرق الأوسط"، وأن "الشيء المهم هو أنه لا ينبغي أن يكون هناك فراغ استراتيجي عندما تنسحب القوات البريطانية من مصر".
في هذه الفترة، كان الغرب يخشى من أن يتمكن الاتحاد السوفيتي الشيوعي من ملء هذا الفراغ، ما يهدد المصالح الغربية في هذه المنطقة الحيوية من العالم، وفقا لـ"بي بي سي".
تشمل الوثائق، التي صنفت بالغة السرية، محاضر تسجل ما دار في سبع جولات من مباحثات وراء أبواب مغلقة بين الولايات المتحدة وبريطانيا في لندن، في الفترة بين 31 كانون الأول/ديسمبر عام 1952 والسابع من كانون الثاني/يناير 1953 لبحث ما اتفقتا على تسميته المسألة المصرية.
شارك في المباحثات 16 مسؤولا بريطانيا و9 مسؤولين أمريكيين يمثلون وزارات الدفاع والخارجية والمالية وقوات عسكرية معنية بالشرق الأوسط.
في بدايتها، أكد سير جيمس باوكير، مساعد نائب وزير خارجية بريطانيا ورئيس وفدها في المباحثات أن "وجود الممثلين الأمريكيين (في لندن للتباحث) شاهد على الأهمية التي توليها حكومة الولايات المتحدة للتوصل إلى تسوية للمسألة المصرية".
وأبلغ الأمريكيون شركاءهم البريطانيين بأن نجيب أبلغهم بقبوله فكرة مشاركة مصر في منظمة تتولى الدفاع عن الشرق الأوسط.
اقرأ أيضا: الكشف عن رسالة مثيرة كتبها محمد نجيب عام 1977
وقال إس بايرود، مساعد وزير خارجية الولايات المتحدة لشؤون الشرق الأدنى وأفريقيا وجنوب آسيا ورئيس الوفد الأمريكي، إن الجنرال نجيب "أشار، في مذكرة إلى السفير الأمريكي في القاهرة بتاريخ الـ 10 من تشرين الثاني/نوفمبر عام 1952، إلى استعداد حكومته لدراسة أن تدخل مصر في النهاية في نظام للدفاع عن الشرق الأوسط مع القوى الغربية شريطة إمكانية إيجاد حل ما لمشكلة الجلاء البريطاني من منطقة القناة".
في الوقت نفسه "قدم (نجيب) طلبا رسميا بالحصول على مساعدة عسكرية واقتصادية من الولايات المتحدة".
وقبيل مباحثات لندن، أرسل نجيب العقيد عبد المنعم أمين، أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة، إلى لندن لنقل موقف مصر من الانسحاب البريطاني.
بالتزامن مع هذا، جرت اتصالات بين سير رالف ستيفسون، السفير البريطاني لدى مصر، ونجيب.
وأبلغ باوكير الأمريكيين بأنه "بناء على ما قاله لهم أمين، والاتصالات المشار إليها ومؤشرات أخرى، فإن السياسة المصرية ترمي إلى وضع المملكة المتحدة في موقف دفاعي، والمطالبة بضرورة أن تجلى القوات البريطانية عن التراب المصري، وبعده قد تكون الحكومة المصرية مستعدة للمشاركة في منظمة للتخطيط للدفاع عن الشرق الأوسط، وأن تسمح للبريطانيين بالعودة إلى قاعدة قناة السويس في الحرب".
وقال إن السفير المصري "أكد هذا خلال مقابلة الوداع، بمناسبة انتهاء فترة عمله في لندن، مع وزير الخارجية البريطاني يوم 22 كانون الأول/ديسمبر 1952".
وبناء على هذا، عرضت بريطانيا التفاوض مع الحكومة المصرية على أساس صفقة تشمل:
• ترتيبات خاصة بقاعدة قناة السويس وانسحاب القوات البريطانية
•مشاركة مصر في منظمة للدفاع عن الشرق الأوسط
• معونة عسكرية لمصر من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة
• معونات اقتصادية من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة
حينها، كان تقييم بريطانيا هو أن نجيب بحاجة إلى إنجاز بعد أن "اهتزت ثقته بنفسه" منذ شهر تشرين الأول/أكتوبر عام 1952 أي بعد شهرين تقريبا من نجاح حركة الضباط الأحرار في خلع الملك فاروق.
ووفق التقييم البريطاني، فإن أسباب ضعف موقف نجيب هي: الأزمة الاقتصادية، وخيبة أمل الفلاحين نتيجة فشل الإصلاحات الزراعية في تحقيق نتائج سريعة، وعدم شعبية ضباط الجيش الذين يتدخلون في كل مناحي الحياة الوطنية، والإخفاق في إحراز أي نجاحات دبلوماسية سريعة".
كما أكدت أن الاتفاق بينها وبين واشنطن "تمهيد أساسي للتوصل إلى تسوية كهذه مع المصريين".
وخلص البريطانيون إلى أنه لذلك وجد نجيب "أنه من الضروري أن يوسع أساس دعمه، كما أصبح أكثر عرضة لنفوذ الإخوان المسلمين، من جانب، وحزب الوفد، من ناحية أخرى".
والخشية البريطانية، في هذا الوقت، هي أن يؤدي هذا النفوذ إلى إضغاف "واقعية الجنرال نجيب نفسه" في مواجهة "الوسائل" التي يستخدمها الإخوان والوفد في مقاومة الاحتلال البريطاني، الأمر الذي "يؤثر على موقف المملكة المتحدة". ورد بايرود بـ "التأكيد على الأهمية الهائلة لإعطاء الدعم للجنرال نجيب".
اقرأ أيضا: BBC: بريطانيا حذرت من حكم الإخوان في مصر قبل 70 عاما
"الرجل رقم 2 مكمن الخطر"
وكشف آر مكلينتوك، المستشار السياسي في السفارة الأمريكية في القاهرة، عن اتصالات سرية بين الأمريكيين وجمال عبد الناصر. وحذر من أن ناصر، وليس الإخوان أو نجيب، هو "مكمن الخطر"، على سياسة نجيب التي تسعى الولايات المتحدة وبريطانيا إلى استمرارها.
وقال إن "هناك خطرا في الموقف الحالي يكمن في "الرجل رقم اثنين" في مصر، جمال عبد الناصر".
وبرر هذا التصور بأن ناصر "مسؤول عن تشكيل "جمعيات التحرير" في أنحاء مصر، وفي حال انهيار المفاوضات، فإن هناك خطرا حقيقيا يتمثل في احتمال استخدام هذه الجمعيات في حرب عصابات".
وكشف الدبلوماسي الأمريكي عن أن سفارة بلاده في القاهرة "أشارت للكولونيل ناصر إلى أي مدى سيكون هذا تكتيكا متهورا". ورغم التحذير، فإن الأمريكيين رأوا أن "الخطر مع ذلك يبقى قائما".
وحذر الأمريكيون أيضا من أنه "لو حصلت المملكة المتحدة على أقل ما هو مطلوب (من القيادة المصرية)، فإن هذا قد يعني مشكلة للولايات المتحدة بالنسبة لقاعدتها في الظهران (بالسعودية)".
واتفق الجانبان على أنه "من الأساسي أن توافق مصر على الانضمام إلى منظمة إقليمية للدفاع عن الشرق الأوسط كجزء من تسوية عامة بين مصر والمملكة المتحدة، ويجب الاتفاق على هيكل المنظمة بين القوى الراعية".
وكانت الصيغة المتفق عليها هي أنه "من المهم أن يكون تأسيس منظمة الدفاع عن الشرق الأوسط جزءًا من حزمة مقترحات تقضي بأن تبدأ المملكة المتحدة سحب قواتها، والتوصل إلى اتفاق بشأن القاعدة، وأن تبدأ مصر المشاركة في منظمة الدفاع عن الشرق الأوسط. وبحلول وقت بدء القوات الانسحاب، يجب أن يكون قد تم بالفعل التوصل إلى اتفاق بشأن القاعدة، وبشأن مشاركة مصر في المنظمة".
وبالتزامن مع هذا "يفترض أن يتم التوصل أيضا إلى اتفاق بشأن برنامج المساعدة الاقتصادية والعسكرية".
وشدد الأمريكيون على أنه "من الضروري بالتأكيد ضمان موافقة مصر من حيث المبدأ على التعاون بإخلاص في الدفاع عن الشرق الأوسط".
وكشفت آخر برقية وصلت الأمريكيين من سفيرهم في القاهرة، جيفرسون كافري، في أول يناير/كانون الثاني عام 1953، عن مذكرة قدمتها مصر للسفارة الأمريكية بالقاهرة، في 10 نوفمبر/تشرين الثاني 1952، قالت فيها: "بعد الموافقة البريطانية على الجلاء، سوف يعطي المصريون تأكيدات (ربما ليس علنا) لنيتهم مشاركة المملكة المتحدة والولايات المتحدة والآخرين في التخطيط للدفاع عن الشرق الأوسط".
وتطبيقا للنهج الأمريكي في التعامل مع مصر، أبدت الحكومة الأمريكية، بعد اتفاق وزراتي الخارجية والدفاع، استعدادا لمطالب إدارة اللواء نجيب الحصول على أسلحة. وأكد بايرود أن "إرسال أسلحة سيحقق منفعة سياسية ويجعل المصريين أكثر استعدادا للتفاوض".
وأبلغ الأمريكيون نظراءهم البريطانيين بأن واشنطن "مقتنعة بأن ردا مؤقتا عاجلا على طلب الجنرال نجيب الحصول على معونة أمر أساسي ليس فقط للاحتفاظ بثقة الجنرال في الغرب، بل أيضا لتهيئة المسرح لمفاوضات قادمة بين مصر والمملكة المتحدة والولايات المتحدة من أجل تسوية مشكلة الدفاع (عن الشرق الأوسط).
ونظرا لأنه لا يبدو ممكنا صياغة برنامج مساعدات اقتصادية يمكن تنفيذه فعلا في الأشهر القليلة المقبلة، فإن اعتقاد الولايات المتحدة هو أن برنامجا مؤقتا لمعونات عسكرية مطلوب. ويبدو أن الصفة العسكرية للنظام الحالي تؤكد أهمية مثل هذا البرنامج".
وفي 19 تشرين الأول/أكتوبر 1954 وقعت مصر اتفاقية جلاء البريطانيين بالكامل عن مصر في غضون 20 شهرا من توقيع الاتفاقية.
وفي تشرين الثاني/نوفمبر عام 1954، تحقق تحذير الأمريكيين بشأن عبد الناصر، الذي نجح في التخلص من اللواء نجيب بعد صراع بين مشروعيهما السياسيين لطريقة حكم مصر بعد الثورة.
وفي 18 يونيو/حزيران عام 1956 رحل آخر جندي بريطاني من مصر، وأزالت القوات البريطانية أعلامها من آخر نقطة لها في مصر، وهو مبنى البحرية في بورسعيد، وهو أول مبنى قاموا باحتلاله عام 1882، ليكون بذلك يوم الخروج عيدا قوميا تحتفل به مصر كل عام وسمي "عيد الجلاء".
وكشفت محتويات تلك الرسائل عن عدد من الأسرار التي توضح بعضا من تفاصيل عزل نجيب ووضعه تحت الإقامة الجبرية وعزله عن محيطه الاجتماعي.
ففي صبيحة الـ 26 من تموز/ يوليو 1952 أبحرت الباخرة "المحروسة" الراسية في ميناء الإسكندرية وهي ترفع العلم الملكي، وتقل الملك فاروق، الذي أجبر على التنحي بعد 16 عاما قضاها في حكم مصر.
وفي 18 حزيران/ يونيو 1953 أعلن رسميا عن إلغاء الملكية وقيام النظام الجمهوري في مصر.
كان اللواء محمد نجيب، أول رئيس لجمهورية مصر العربية، وصاحب الخطاب الموجه للملك فاروق، يطالبه فيه بالتنازل عن العرش، ولم يكن يتوقع أن تنقلب عليه ثورته التي أطاحت بالملك، ففي منزل متهالك مشيد من الطوب اللبن، في شارع ضيق، لا يرقى أن يكون منزلاً لرئيس، عاش أول رئيس لمصر.
هناك، وقفنا لنستمع لروايات لم ترو من قبل، وأسرار كانت في طي الكتمان، حيث تناسى كثيرون أول رئيس للجمهورية المصرية، وأحد الضباط الأحرار، اللواء نجيب.
فى قرية "النحارية"، التي سميت على اسمه فيما بعد، بمركز كفر الزيات في محافظة الغربية (دلتا مصر- شمالا)، ولد "نجيب" عام 1896، من أب مصري وأم سودانية، التحق بالجيش المصري، وشارك في حرب فلسطين 48، وبعد نجاح حركة الضباط الأحرار في 23 تموز/ يوليو 1952 تولى رئاسة الجمهورية.
وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 1954 تم عزله من منصبه، ووضعه تحت الإقامة الجبرية في قصر بضاحية المرج (شمال القاهرة)، إلى أن أفرج عنه الرئيس الأسبق أنور السادات بعد حرب 1973، ليرحل عن عالمنا في 1984.
بين جنبات المنزل المتهالك، تحدث أفراد من عائلته، الذين اعتبروه أكثر المظلومين عقب أحداث 23 تموز/ يوليو، بعد أن تجاهله مجلس قيادة الثورة، ووضعوه في المعتقل، ناكرين دوره في قيادة الضباط الأحرار، وطمس اسمه كأول رئيس للجمهورية، وإطلاق لقب أول رئيس للجمهورية على جمال عبد الناصر، بحسب تعبيرهم.
يقول عبد القوي يوسف القشلان، أحد أفراد عائلة الرئيس محمد نجيب، إنه (محمد نجيب) كان يردد دوما: "ماذا جنيت حتى يفعلوا بي كل هذا؟"، قاصدا رجال الثورة.
وأضاف قشلان: "عندما أتى المشير عبدالحكيم عامر، ليبلغه بقرار إعفائه من الرئاسة، قال له أنا لن أستقيل لأني بذلك أصبح مسؤولا عن ضياع السودان، أما إذا كان الأمر إقالة فمرحبا بها".
وتابع بأن "عبد الحكيم عامر، أقسم أن إقامته في مكان احتجازه لن تستغرق سوى أيام قليلة وبعدها سيعود لمنزله ولكنه لم يخرج منها إلا بعد 20 عاما، عاشها في ذل ومهانة حيث كان يغسل ملابسه بنفسه".
واستنكر عباس يوسف القشلان، وهو ضابط متقاعد من القوات البحرية، وأحد أفراد العائلة، سوء المعاملة التي تعرض لها الرئيس نجيب وأسرته، مقارنة ببقية أسر الرؤساء، قائلا: "ليس هناك أوجه مقارنة بعائلة عبدالناصر والسادات حتى مبارك الذي أشبع البلاد ظلما وطغيانا وفسادا، فإنه يعامل أفضل مما تعامل به جدّي محمد نجيب في معتقله".
مضيفا: "نحن، محمد نجيب وعائلته، طيبون لدرجة الخيبة.. فأولاده الثلاثة، عقب عزله من منصب رئاسة الجمهورية، لم يكن سعيد الحظ بهم، فابنه الأكبر (فاروق) سجن ثم خرج ولقي مصرعه في حادث سيارة غامض، والابن الأوسط (علي) كان يدرس الطيران في ألمانيا واغتيل هناك حيث كان له نشاط واسع ضد اليهود، فكان يقيم المهرجانات والندوات التي تدافع عن الثورة المصرية، وعن حق الفلسطينيين، ونجله الأصغر (يوسف) عمل سائق تاكسي بعد أن تم فصله من إحدى شركات البترول التي كان يعمل بها".
وتابع عباس قشلان: "كنت برفقة والدي في زيارة للرئيس داخل معتقله، وكنت في سن 15، وسمعت عبدالناصر يلقي خطابا في الراديو فأسرعت لغلقه، فتبسم جدّي، وسأل عن سبب قفلي الراديو، فقلت له: لأن هذا الرجل طردك من الرئاسة وحبسك هنا، فتبسم مرة ثانية وقال: لا لا، افتح الراديو يا عباس نريد أن نطمئن على أحوال البلد".
ومن مكتبة صغيرة أخرج "عباس" خطابات بخط (جده) نجيب، أرسلها وهو في معتقله لعبدالناصر وعبدالحكيم عامر (القائد العام للقوات المسلحة في ذلك الوقت)، من بينها خطاب يطلب فيه مبلغ 10 جنيهات من معاشه والمقدر بـ 176 جنيها لإجراء عملية جراحية عاجلة لزوجته، بعد أن نفد كل ما يملكه.
وفي خطاب آخر يقول: "أتمنى المساهمة في مجهود البلاد الحربي، وإنني لو استطعت أن أبيع ملابسي وأثاث منزلي لفعلت، ولكني عاجز عن فعل أي شيء، ولا أملك سوى خمسة جنيهات، وهي مجرد رمز فقط للتضحية من أجل وطني".
وخطاب ثالث يعاني فيه نجيب من الأحوال المعيشية السيئة، متسائلاً: "هل أنا حي أم ميت؟ لم أحلق شعري منذ شهر ولم يزرني الطبيب منذ 10 أيام رغم أنه يأخذ يومًا حقنة للكبد".
وفي ذات الخطاب أبدى "نجيب" اشتياقه لزوجته وأولاده قائلا لـ"عبدالناصر": "أتمنى أن أرسل لزوجتي وأولادي خطابا كل أسبوع يطمئنون فيه على أني مازلت على قيد الحياة، على أن يصلني منهم ولو سطر واحد يؤكد لي أنهم تسلموا خطاباتي فأطمئن عليهم، وطبعا أنا وأولادي وكل ما نملك فداء للوطن".
وفي خطاب مكتوب عليه "سري جدا جدا، وعاجل جدا جدا، يسلم شخصيا للرئيس عبدالناصر"، يطلب نجيب أن يدافع عن وطنه بعد نكسة 67 قائلا: "أريد منك أن تسمح لي بأعز أمنية لي وهي المشاركة في أقدس واجب وأشرفه، وهو الدفاع عن مصر فاسمح لي بالتطوع جنديا عاديا في جبهة القتال باسم مستعار وتحت أية رقابه شئت دون أن يعلم أحد بذلك غير المختصين، وإني أعدك بأثمن ما أملك أعدك بشرفي أن أعود إلى معتقلي إذا بقيت حيا بعد انتهاء القتال.. وإني مستعد أن أقوم بعمل انتحاري كأن أسقط بطائرة أو مظلة محاطًا بالديناميت على أي هدف مهم وهذا إقرار مني بذلك".
ويتفق شوقي غلاب، أستاذ التاريخ بكلية الآداب جامعة طنطا، مع رواية أقارب محمد نجيب، قائلا: "إن مما يؤخذ على ضباط ثورة 23 يوليو أنهم انقبلوا على قائدهم محمد نجيب وعزلوه من منصبه وقاموا بتحديد إقامته في فيلا بالمرج، مع فرض حراسة مشددة عليه ومنع أي أحد من أهله من زيارته، أو حتى معرفة مكانه، كما هو موضح في أحد خطاباته التي أرسلها إلى الرئيس عبدالناصر".
ويوضح غلاب أن السياسيين "اختلفوا فيما بينهم في تحديد أسباب عزل نجيب ووضعه تحت الإقامة الجبرية، فمنهم من رأى أن ذلك خوفا من شعبيته القوية في ذلك الوقت، وأنه كان يريد أن يعود الجيش لثكناته، وإعادة الحياة المدنية والديمقراطية".
ويضيف أستاذ التاريخ بجامعة طنطا: "إلى جانب ذلك ترددت شائعات حول محمد نجيب، أنه متعاطف مع الإخوان، ويميل إليهم بفكره، وهو ما دفع الضباط الأحرار وعلى رأسهم جمال عبدالناصر لإصدار قرار عزله وتحديد إقامته".
ويعتبر الدكتور شوقي غلاب أن "تاريخ عزل محمد نجيب هو البداية الفعلية للحكم العسكري لمصر"، واصفا محمد نجيب بأنه كان "ضحية يوليو".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق