كانت بداية هذا العام صادمة ومحزنة بفعل جريمة كنيسة القديسين في الإسكندرية، وبتأثير ما كان متوقعا من انفصال جنوب السودان. وبدأ في وقت كانت تونس تتهيأ فيه للولوج إلى حالة نوعية جديدة؛ انتهت بفتح أبواب التغيير والأمل لها ولمن حولها، وهي حالة طال انتظارها. وتحققت بفضل ما قدمت من شهداء وضحايا من كافة الأرجاء؛ على مدى أسابيع أربعة متصلة.
انطلقت من مدينة سيدي بوزيد مرورا بمدن ونواحي القصرين والرقاب وتالة وغيرها وصولا إلى العاصمة. تلك الأسابيع الأربعة مثلت الفترة التي يمكن أن نطلق عليها فترة العصيان والرفض وانتهت برحيل بن علي. فيها خرج الناس بالآلاف ضد الفساد السياسي ورفضا للإذلال البوليسي، وسعيا للتخلص من الطغيان العائلي، وتغلغله في مؤسسات الدولة ومفاصل الحزب الدستوري الحاكم. واندلعت الثورة بشرارة أشعلها الراحل محمد البوعزيزي؛ حين أضرم النار في نفسه، وانتقل الغضب المشتعل في الصدور والكامن في القلوب والضمائر إلى الشارع، وأحرق في طريقه الحكم البوليسي والطغيان العائلي.
لما رفع البوعزيزي أذان الثورة وجد شعبا يلبي ويخرج عن بكرة أبيه. وأحسبه لم يكن يتصور أنه جسد معاناة شعب واختزلها بفعلته تلك، وعبر عن معانة جيله، الذي انتظر ذلك اليوم بفارغ الصبر؛ كان جيلا محروما من أبسط الحقوق المشروعة، ومنها حق العمل، وذلك الحرمان صنعته قلة مترفة لا تفهم ولا تعي أن للتحمل حدودا، ومن يتحمل أكثر من طاقته يفيض به الكيل، فينفجر ويخرج منه الغضب المكبوت حمما تحرق ما في طريقها، والمواطن التونسي تحمل فوق طاقته. وكان من الصعب أن يستمر على هذه الحال، وضاقت الدنيا بمحمد البوعزيزي، ووجد حلا في الاعتماد على النفس. فقد اكتشف أن دراسته الجامعية لا تسعفه، ولا تعطيه حقه المشروع في العمل، ولم يجد بمؤهله العالي وظيفة مناسبة، وشق طريقه في كسب قوته اليومي من بيع الخضروات، لكن الجلادين الصغار لم يتركوه؛ لاحقوه وصادروا عربته، التي تعينه على مواجهة مصاعب الحياة. وذهب يشكو طالبا استردادها؛ لم يجد عقلا يتفهمه، ولا صدرا يتسع لإنصافه، ولا موظفا يعيد له عربته، ووجد من يصفعه، فينحي ما فيه من تحمل وصبر، ويهدر ما بقي له من كرامة، ويقضي على ما احتفظ به من كبرياء. وأهون على الإنسان عزيز النفس أن يفقد حياته ولا يفقد كرامته وكبرياءه؛ غادر مقر البلدية ليشعل النار في نفسه. وانفجر معها بركان الثورة الكامن، ولم تمنع زيارة بن علي للبوعزيزي في المستشفى وهو يحتضر من الإنفجار بل زادته فورانا واشتعالا، وامتد إلى كل أرجاء تونس.
لم يدر أنه أحيا في الذاكرة المصرية مشهد انتحار محمد عبد الحميد شتا؛ الطالب المتفوق والشاب النابغة المقبل على الحياة، وكان قد وضع كل آماله على النبوغ والتفوق في تبوؤ مكانة لائقة به في بلده، ولم يتنبه إلى أن عصر الفرص المتكافئة قد ولى، وكل الفرص أضحت حكرا على سلالة الطغاة وأبناء المستبدين وأولاد الجلادين واللصوص وتجار المخدرات وأصحاب الثروات مجهولة المصدر. وتقدم لمسابقة الملحقين التجاريين إلى الخارج، واحتل المركز الأول بين المتقدمين، ولما علم بذلك شعر بجدارته وأنه الأحق بالوظيفة. وذهب لتسلم خطاب التعيين؛ ما أن فتحه حتى صعق؛ فعلى الرغم من الاعتراف بالنجاح والتفوق، وجد الرسالة مذيلة باعتذار قاتل عن عدم شغله للوظيفة، لأنه 'غير لائق اجتماعيا' حسب ما ورد في نص الخطاب؛ لأنه ابن فلاح منتج وكادح من أولاد البلد الطيبين الكرماء!! وبعد أن كان ذلك المنبت شرفا صار في عصر العار سبة؛ أدارت رأس الشاب، فلم تستوعب معنى 'اللياقة الاجتماعية' للتمييز بين إنسان وآخر.مع أن قائمة 'اللائقين اجتماعيا' تضم كل المطعون في أهليتهم وشرفهم، وليس في آدميتهم فقط. وما كان عليه إلا أن ذهب حاملا خطابه بكامل هندامه إلى كوبري قصر النيل الشهير بالقاهرة؛ فيلقي بنفسه في النيل لتبتلعه الأمواج، ويصبح عار مصر كلها التي سكتت على عار التمييز بين مواطن وآخر!!
فتح البوعزيزي أبواب الثورة على مصاريعها، وكانت قد أغلقت بالضبة والمفتاح حتى أيقن الطغاة أن أقفالها أحكمت وصدئت بطول المدة، ولن يقوى أحد على فتحها، واستراح مستبدون في قصورهم، واستقر طغاة في قلاعهم، واحتمى لصوص بمستوطناتهم. واثبتت تونس أن الإرادة حين تستعاد والكرامة عندما تسترد تفتح الأبواب الموصدة وتحطم الأقفال الصدئة، وأن الثورات لا يشعلها الجوع فقط، وتتفجر بإهدار الكرامة والإذلال. وتحمل البوعزيزي الشقاء اليومي في سبيل الحصول على لقمة العيش، لكنه لم يتحمل إهدار الكرامة ولا الإذلال. لذا فإن ثورات من هذا النوع لا تملك ترف التراجع، عليها أن تتقدم؛ إنه خيارها الوحيد، وما دونه تفريط في أرواح الشهداء ودماء الضحايا، فخلال مرحلتها الأولى وحدها سقط ما يقرب من مئة شهيد ومئات الجرحى. والطبيعة الشعبية لثورة تونس تمكنها من استكمال مهامها، فليست ملك فئة ولا صناعة نخبة، ولم تشعلها هذه الجماعة السياسية أو تلك، وليس عليها أوصياء، وثورة هذه صفاتها لا تتوقف عند فترة العصيان ومرحلة الرفض، وإلا واجهت احتواء وتآمرا داخليا وإقليميا ودوليا.
عززت الغالبية العظمى من العائلات الحاكمة في الوطن العربي وجودها واستمرارها؛ عززت ذلك ببراعتها وقدرتها على التآمر، وقوت سلطاتها وسلطانها اعتمادا على قوى وقواعد وحماية أجنبية، منذ بدء مرحلة الانحطاط الكبرى بعد أن وضعت حرب 1973 أوزارها، وقد بالغت ببناء حكم بوليسي متوحش؛ مجرد من الحس الإنساني والأخلاقي ومعه أجهزة دعاية حكومية وشبه حكومية؛ تنتج الخداع والتضليل والمديح الكاذب تدعمه، وهذا البنيان مكن من قمع الداخل والتآمر على المقاومة الفلسطينية والمقاومة العراقية والمقاومة اللبنانية وحزب الله، ووضع إيران في مقام العدو المركزي البديل للعدو الصهيوني، واختارته تلك العائلات مرجعيتها ووسيطها لدى البيت الأبيض، وتجاوزت العائلة الحاكمة في القاهرة ذلك بكثير، فأصبحت سياستها خادمة لمشروعه، وصارت هي حليفا له، أكثر قربا منه، وابتعاداعن البلاد العربية والإسلامية، خاصة سورية والجزائر وإيران وقطر.
وأثر ثورة تونس على محيطها وعلاقتها لن يكون بأقل من ثورات مصر والجزائر وإيران، والسبب هو ذلك التغير النوعي الذي من المرجح وقوعه في تركيبة الحكم، وفي الأفق الاستراتيجي لسياسته. فتونس ما قبل الشرارة البوعزيزية بنت رؤاها السياسية على إقصاء ركيزتين من أهم ركائز التكوين التاريخي والاجتماعي والنفسي في تكوين الشخصية التونسية؛ فمع انجاز الاستقلال أقام الحبيب بورقيبة، أول رئيس للجمهورية سياسته على كسر الركيزة الأولى وكانت العروبة، واعتبر تونس إفريقية فرانكفونية، مع أنه ليس ثمة تعارض بين تونس الافريقية بالجغرافيا والامتداد والتداخل، وبين تونس العربية؛ بحقائق الهوية والتاريخ والثقافة والدين. واندلعت انتفاضات عديدة في عهده تقاوم توجهه هذا. وحين حل محله بن علي أقصى الركيزة الثانية، ألا وهي الدين؛ والدين في تونس يعني الإسلام، وبذل بن علي جهدا خارقا لتطهير تونس منه، ومع ذلك عجز عن انتزاع الدين من التكوين الثقافي الاجتماعي والنفسي للشخصية التونسية.
هذه ولادة جديدة تمكن تونس التفاعل مع محيطها، وتشد الأنظار إليها، وسوف تحصد مقابل دورها في إعادة الثقة إلى العمل الوطني، وفي إزاحة الستار عن إمكانيات الشعب الكامنة وقوته بأكثر مما تصور المستهزئون به، والساخرين من كل ما ينسب إليه؛ وصل الاستهزاء باللغة الوطنية حد وصفها باللغة الخشبية تارة والحنجورية تارة أخرى. ونعت التوجهات الشعبية والوطنية والقومية بالشعبوية والوطنجية والقومجية، وبعد أن كان الشعب والوطن والأمة قدس الأقداس امتهنوا على يد أولئك أيما امتهان، وها هي ثورة تونس تعيد الاعتبار للشعب والوطن والأمة. وانتصرت تونس بشعبها وشارعها ومواطنيها، وكانت من النضج إلى درجة أخذت فيها بمبدأ الحماية الذاتية، وتأمين المواطنين، وصون أرواحهم، والحفاظ على ممتلكاتهم، وعزز الجيش هذا التوجه، وبدلا من أن يكون عصا الطغاة الغليظة صنع من نفسه سياجا حاميا؛ متصديا لإجرام المليشيات الحزبية والعصابات البوليسية والرئاسية، وهذا جذب إليه الأنظار.
مدت تونس في وضعها الجديد بصرها عبر حدودها، وفكت قيود العزلة، ونفضت غبار التبعية، وأعادت الاعتبار إلى العوامل الداخلية وتضحيات الشعب، بعيدا عن الاستقواء بالخارج أو انتظار تدخل أو مساعدة من هذا أو ذاك. وهذا طريق صحيح للتغيير وإدامته. كل هذا وغيره اربك حسابات كثير.. رسمية وغير رسمية. وظهر ذلك واضحا في موقف ليبيا الرسمي وشبه الرسمي. العقيد معمر القذافي؛ وهو المفترض فيه على المستوى النظري والمبدئي أن يكون أول مؤيد وداعم لثورة تونس لطبيعتها الشعبية التي دعا لها في كتابه الأخضر، لكنه تناقض مع ما يدعو إليه، ومن الواضح أنه لم يتحمل رؤية مثل هذا التغيير على حدوده وبالقرب منه، فأشاد ببن علي الهارب من شعبه، وعمل على بث الخوف بين أبناء تونس قائلا: 'العائلات يمكن أن يُعتدى عليها وتتعرض إلى الذبح في غرف نومها. المواطنون قد يُقتلون في الشارع' ولم يكن هذا مستغربا وإن كان صادما. من ناحية أخرى بثت وكالة أنباء ليبيا؛ ومقرها لندن ومملوكة لسيف الإسلام، بثت أخبارا عن فساد في الجيش الليبي، ولم تتطرق إلى الفساد المدني، وبدا البث وكأنه قلق من الجيش، أو رسالة موجهة للجيش التونسي، الذي يرتبط بعلاقات تعاون مع الجيش الليبي، وقد أفصحت مصادر موثوقة بأن بن علي مر على القذافي وهو في طريقه إلى منفاه، أما الجزائر شغلتها توتراتها، وموريتانيا تعاني من الارتباك.
وتشهد مصر انقلابا في المزاج العام نتيجة شعور بدأ ينتاب أبناءها بأن ثورتهم تأخرت كثيرا، وظهرت كتابات تبحث عن أسباب ذلك التأخير، وقد اهتم ناشطون سياسيون بدراسة قام بها العالم المصري المعروف والناشط السياسي أشرف البيومي؛ عددت الأسباب، وعزا بعضها إلى سلوك من وصفهم بالنخبة؛ عاب عليهم هرولتهم وراء شخص له مكانة دولية وحاصل على جائزة نوبل للسلام لكنه بعيد عن تفاعلات المجتمع، وحسب رأيه أن الجائزة لا يحصل عليها مدافع عن حق الشعوب، وضرب مثلا بحق الشعب العراقي أو الفلسطيني المحاصر، ولا تعطى مكافأة على احتجاج ضد انتهاك حقوق المصريين، ويسأل عن إمكانية التفاف الشعب حول هكذا نخبة؟! وهو رأي مثير للجدل.
لا بد ان الكثيرين من الزعماء العرب الذين يتابعون تطورات الاوضاع في تونس بعد الثورة الشعبية العارمة يصلّون ليل نهار من اجل فشلها، ويراهنون على استمرار الاضطرابات الامنية، خاصة في دول الجوار، حتى يأمنوا على انفسهم، ويطمئنوا على دوام حكمهم.
فاللافت ان الغالبية الساحقة من الانظمة العربية استخدمت تدهور الاوضاع الامنية في العراق بعد تغيير النظام من اجل ضرب عصفورين بحجر واحد، الاول هو تذكير الشعب ليل نهار بان الاستقرار الذي تحققه الانظمة الحاكمة، ورغم دكتاتوريتها هو افضل الف مرة، والثاني التأكيد للحليف الامريكي بان البديل لهذه الانظمة هو الفوضى واعمال العنف والتفجير، وازدياد نفوذ الجماعات الاسلامية المتشددة.
ثورة الشعب التونسي فضحت هذه الادعاءات الزائفة، عندما اكدت ان البديل ليس اسلاميا وانما التعددية الحزبية الحقيقية، وان الانظمة الدكتاتورية الفاسدة يمكن تغييرها من الداخل وعبر الثورات الشعبية السلمية.
صحيح ان المجتمع التونسي له خصوصيته ويختلف عن شعوب عربية اخرى من حيث وجود طبقة وسطى راسخة، ومؤسسات مجتمع مدني متجذرة، ونسبة تعليم ربما تكون اعلى من غيرها في دول اخرى، ولكن الصحيح ايضا ان الاسباب والتراكمات التي دفعت بالشعب التونسي الى الثورة هي نفسها الموجودة في جميع الدول العربية الاخرى، ونحن لا نتحدث هنا، عندما نعمم، عن البطالة والفقر والجوع وتدهور الاحوال المعيشية فقط، وانما عن الفساد ونهب الثروات والغياب الكامل للعدالة الاجتماعية والحريات الفردية، واحترام حقوق الانسان ايضا.
السابقة الاهم التي سجلها الشعب التونسي بثورته هذه ـ في رأينا ـ تتمثل في الفرز الواضح بين الامن واجهزته المتعددة، السرية منها والعلنية، وبين المؤسسة العسكرية وقواتها المختلفة. فقد اصبح واضحا ان الامن انحاز الى الرئاسة والديكتاتورية القمعية، بينما اختارت المؤسسة العسكرية الوقوف الى جانب الشعب، او عدم توظيف بنادقها في خدمة الحفاظ على النظام واستمراره.
الرئيس زين العابدين بن علي راهن دائما على المؤسسة الامنية التي ولد من رحمها، واطمأن الى صلابتها وولائها، وثبت من خلال تطورات الاحداث ان رهانه كان في محله، فلم تتردد الاجهزة الامنية في اطلاق النار بهدف القتل على المحتجين الابرياء، وقتلت ثمانين منهم، وبعد ان تأكد لها فرار زعيمها، تحول بعضها الى ميليشيات، لخلق حالة من الفوضى والرعب في انحاء عديدة من البلاد.
ومن المفارقة ان عديد قوات الامن في تونس اكثر من نظيره في فرنسا الدولة التي يبلغ عدد سكانها ستة اضعاف عدد سكان تونس، والاهم من ذلك انها تملك احدث وسائل القمع والتعذيب غير المتوفرة في مختلف الدول الاوروبية.
' ' '
تفاصيل وقائع الساعات الاخيرة من حكم الرئيس بن علي قبل فراره الى المملكة العربية السعودية كمحطة 'ترانزيت' ما زالت غير معروفة على وجه الدقة، ولكن ما هو معروف بل شبه مؤكد ان قوات الامن عجزت عن حمايته عندما تظاهر خمسمائة ألف امام وزارة الداخلية احد ابرز رموز القمع في البلاد، وادركت ان المحتجين من النساء والرجال لا يخافون الرصاص، وهنا لجأ الرئيس الى الجيش الذي اضـــعفه متعمــــدا، واهمل تسليـــحه وتدريبه، على مدى السنوات العشرين الماضية لعدم ثقته به، ففوجــــئ بلحظـــة الحقيقة المؤلمة بالنسبة اليه، عندما لم يرفض قادة الجيـــش التصدي للمتظاهرين فقط، وانما اعطوه ثلاث ساعات للمغادرة فورا قبل اغلاقهم المجال الجوي للبلاد، فابتلع الرسالة المهينة، وفضل النجاة بحياته مع ما تبقى من افراد عائلته.
الامر المؤكد ان الكثيرين من وزراء الداخلية العرب، والمتميزين في حماستهم للقمع والتعذيب، سيفتقدون الرئيس بن علي الذي حول عاصمة بلاده الى 'قبلة' لهم، والمقر الدائم لاجتماعهم السنوي الذي يتداعون اليه في توقيت مقدس، يحرص الجميع على المشاركة فيه للتنسيق حول كيفية تبادل خبرات القمع والتنكيل بالشعب، والحفاظ على الانظمة الدكتاتورية.
لا نعرف اين سينقل وزراء الداخلية العرب قبلتهم، وسنتهم السنوية، ولا نستغرب ان تكون الرياض العاصمة السعودية هي المرشح الابرز، ليس لان الرئيس المخلوع بن علي اتخذها ملاذا آمنا فقط، بل لان الامير نايف بن عبد العزيز آل سعود وزير الداخلية السعودي والنائب الثاني لرئيس الوزراء، هو 'عميد' وزراء الداخلية العرب، والاطول بقاءً في منصبه.
وزراء الاعلام العرب سيفتـــقدون الرئيــــس بن علي حتــما، فهم يحمــلون له ولعهده ذكريات طيبة، الذين اهتدوا بتعاليمه حول كيفية تكميم الافواه، وكسر الاقلام، وتشديد الرقابة، واغلاق الاجواء في وجه المحطات الفضائية.
نظام بن علي سقط، ولذلك يجب المطالبة باسقاط جميع الاتفاقات التي جرى التوصل اليها في عهده او تحت مظلته، سواء من قبل وزراء الداخلية العرب، او قادة قوات الامن العرب، او حتى وزراء الاعلام. مثلما نطالب بتحويل مبنى الامانة العامة لوزراء الداخلية العرب الى متحف للقمع وادواته.
' ' '
من المؤكد ان الرئيس بن علي لن يفتقد وزراء الاعلام، ولا حتى زملاءهم وزراء الداخلية، بعد ان اتضحت لديه الصورة، واعترف علنا في خطابه الوداعي الاخير الذي ألقاه قبل هروبه، بانه تعرض الى عملية تضليل من قبل بطانته السيئة التي زعم انها حجبت عنه الحقائق كاملة، وابعدته عن الشعب.
اهل تونس الابية، الذين فاجأونا جميعا بصلابتهم، وطول نفسهم، واصرارهم على الاطاحة بالدكتاتور رغم فداحة الثمن هؤلاء الشرفاء لم يعودوا بحاجة الى التسلل الى فرنسا او اوروبا من اجل تنشق هواء الحرية، والتعبير بدون خوف، عن معاناتهم، والاسهاب في سرد وقائع الفساد ونهب المال العام على ايدي البطانة وافراد الاسرة الحاكمة، وهو الفساد الذي قدرته مؤسسة: Global financial integrity الدولية المتخصصة في مراقبة هذا الميدان، بأكثر من مليار دولار سنويا.
قبل الثورة في تونس كانت معظم طموحاتنا تتلخص في منع 'آفة التوريث'، طبعا الى جانب المطالب المزمنة بالديمقراطية والحريات، وبعد الثورة في تونس بات مصير انظمة التوريث على 'كف عفريت'. فما يشغل بال الدكتاتوريين العرب حاليا هو كيفية كسب بعض الوقت لانقاذ ما يمكن انقاذه، وتهريب اكبر قدر ممكن من الاموال الى دول لا تصل اليها جماعة 'الويكيليكس'، وحفر انفاق تحت قصور حكمهم باتجاه المطار لتأمين هروب آمن.
انطلقت من مدينة سيدي بوزيد مرورا بمدن ونواحي القصرين والرقاب وتالة وغيرها وصولا إلى العاصمة. تلك الأسابيع الأربعة مثلت الفترة التي يمكن أن نطلق عليها فترة العصيان والرفض وانتهت برحيل بن علي. فيها خرج الناس بالآلاف ضد الفساد السياسي ورفضا للإذلال البوليسي، وسعيا للتخلص من الطغيان العائلي، وتغلغله في مؤسسات الدولة ومفاصل الحزب الدستوري الحاكم. واندلعت الثورة بشرارة أشعلها الراحل محمد البوعزيزي؛ حين أضرم النار في نفسه، وانتقل الغضب المشتعل في الصدور والكامن في القلوب والضمائر إلى الشارع، وأحرق في طريقه الحكم البوليسي والطغيان العائلي.
لما رفع البوعزيزي أذان الثورة وجد شعبا يلبي ويخرج عن بكرة أبيه. وأحسبه لم يكن يتصور أنه جسد معاناة شعب واختزلها بفعلته تلك، وعبر عن معانة جيله، الذي انتظر ذلك اليوم بفارغ الصبر؛ كان جيلا محروما من أبسط الحقوق المشروعة، ومنها حق العمل، وذلك الحرمان صنعته قلة مترفة لا تفهم ولا تعي أن للتحمل حدودا، ومن يتحمل أكثر من طاقته يفيض به الكيل، فينفجر ويخرج منه الغضب المكبوت حمما تحرق ما في طريقها، والمواطن التونسي تحمل فوق طاقته. وكان من الصعب أن يستمر على هذه الحال، وضاقت الدنيا بمحمد البوعزيزي، ووجد حلا في الاعتماد على النفس. فقد اكتشف أن دراسته الجامعية لا تسعفه، ولا تعطيه حقه المشروع في العمل، ولم يجد بمؤهله العالي وظيفة مناسبة، وشق طريقه في كسب قوته اليومي من بيع الخضروات، لكن الجلادين الصغار لم يتركوه؛ لاحقوه وصادروا عربته، التي تعينه على مواجهة مصاعب الحياة. وذهب يشكو طالبا استردادها؛ لم يجد عقلا يتفهمه، ولا صدرا يتسع لإنصافه، ولا موظفا يعيد له عربته، ووجد من يصفعه، فينحي ما فيه من تحمل وصبر، ويهدر ما بقي له من كرامة، ويقضي على ما احتفظ به من كبرياء. وأهون على الإنسان عزيز النفس أن يفقد حياته ولا يفقد كرامته وكبرياءه؛ غادر مقر البلدية ليشعل النار في نفسه. وانفجر معها بركان الثورة الكامن، ولم تمنع زيارة بن علي للبوعزيزي في المستشفى وهو يحتضر من الإنفجار بل زادته فورانا واشتعالا، وامتد إلى كل أرجاء تونس.
لم يدر أنه أحيا في الذاكرة المصرية مشهد انتحار محمد عبد الحميد شتا؛ الطالب المتفوق والشاب النابغة المقبل على الحياة، وكان قد وضع كل آماله على النبوغ والتفوق في تبوؤ مكانة لائقة به في بلده، ولم يتنبه إلى أن عصر الفرص المتكافئة قد ولى، وكل الفرص أضحت حكرا على سلالة الطغاة وأبناء المستبدين وأولاد الجلادين واللصوص وتجار المخدرات وأصحاب الثروات مجهولة المصدر. وتقدم لمسابقة الملحقين التجاريين إلى الخارج، واحتل المركز الأول بين المتقدمين، ولما علم بذلك شعر بجدارته وأنه الأحق بالوظيفة. وذهب لتسلم خطاب التعيين؛ ما أن فتحه حتى صعق؛ فعلى الرغم من الاعتراف بالنجاح والتفوق، وجد الرسالة مذيلة باعتذار قاتل عن عدم شغله للوظيفة، لأنه 'غير لائق اجتماعيا' حسب ما ورد في نص الخطاب؛ لأنه ابن فلاح منتج وكادح من أولاد البلد الطيبين الكرماء!! وبعد أن كان ذلك المنبت شرفا صار في عصر العار سبة؛ أدارت رأس الشاب، فلم تستوعب معنى 'اللياقة الاجتماعية' للتمييز بين إنسان وآخر.مع أن قائمة 'اللائقين اجتماعيا' تضم كل المطعون في أهليتهم وشرفهم، وليس في آدميتهم فقط. وما كان عليه إلا أن ذهب حاملا خطابه بكامل هندامه إلى كوبري قصر النيل الشهير بالقاهرة؛ فيلقي بنفسه في النيل لتبتلعه الأمواج، ويصبح عار مصر كلها التي سكتت على عار التمييز بين مواطن وآخر!!
فتح البوعزيزي أبواب الثورة على مصاريعها، وكانت قد أغلقت بالضبة والمفتاح حتى أيقن الطغاة أن أقفالها أحكمت وصدئت بطول المدة، ولن يقوى أحد على فتحها، واستراح مستبدون في قصورهم، واستقر طغاة في قلاعهم، واحتمى لصوص بمستوطناتهم. واثبتت تونس أن الإرادة حين تستعاد والكرامة عندما تسترد تفتح الأبواب الموصدة وتحطم الأقفال الصدئة، وأن الثورات لا يشعلها الجوع فقط، وتتفجر بإهدار الكرامة والإذلال. وتحمل البوعزيزي الشقاء اليومي في سبيل الحصول على لقمة العيش، لكنه لم يتحمل إهدار الكرامة ولا الإذلال. لذا فإن ثورات من هذا النوع لا تملك ترف التراجع، عليها أن تتقدم؛ إنه خيارها الوحيد، وما دونه تفريط في أرواح الشهداء ودماء الضحايا، فخلال مرحلتها الأولى وحدها سقط ما يقرب من مئة شهيد ومئات الجرحى. والطبيعة الشعبية لثورة تونس تمكنها من استكمال مهامها، فليست ملك فئة ولا صناعة نخبة، ولم تشعلها هذه الجماعة السياسية أو تلك، وليس عليها أوصياء، وثورة هذه صفاتها لا تتوقف عند فترة العصيان ومرحلة الرفض، وإلا واجهت احتواء وتآمرا داخليا وإقليميا ودوليا.
عززت الغالبية العظمى من العائلات الحاكمة في الوطن العربي وجودها واستمرارها؛ عززت ذلك ببراعتها وقدرتها على التآمر، وقوت سلطاتها وسلطانها اعتمادا على قوى وقواعد وحماية أجنبية، منذ بدء مرحلة الانحطاط الكبرى بعد أن وضعت حرب 1973 أوزارها، وقد بالغت ببناء حكم بوليسي متوحش؛ مجرد من الحس الإنساني والأخلاقي ومعه أجهزة دعاية حكومية وشبه حكومية؛ تنتج الخداع والتضليل والمديح الكاذب تدعمه، وهذا البنيان مكن من قمع الداخل والتآمر على المقاومة الفلسطينية والمقاومة العراقية والمقاومة اللبنانية وحزب الله، ووضع إيران في مقام العدو المركزي البديل للعدو الصهيوني، واختارته تلك العائلات مرجعيتها ووسيطها لدى البيت الأبيض، وتجاوزت العائلة الحاكمة في القاهرة ذلك بكثير، فأصبحت سياستها خادمة لمشروعه، وصارت هي حليفا له، أكثر قربا منه، وابتعاداعن البلاد العربية والإسلامية، خاصة سورية والجزائر وإيران وقطر.
وأثر ثورة تونس على محيطها وعلاقتها لن يكون بأقل من ثورات مصر والجزائر وإيران، والسبب هو ذلك التغير النوعي الذي من المرجح وقوعه في تركيبة الحكم، وفي الأفق الاستراتيجي لسياسته. فتونس ما قبل الشرارة البوعزيزية بنت رؤاها السياسية على إقصاء ركيزتين من أهم ركائز التكوين التاريخي والاجتماعي والنفسي في تكوين الشخصية التونسية؛ فمع انجاز الاستقلال أقام الحبيب بورقيبة، أول رئيس للجمهورية سياسته على كسر الركيزة الأولى وكانت العروبة، واعتبر تونس إفريقية فرانكفونية، مع أنه ليس ثمة تعارض بين تونس الافريقية بالجغرافيا والامتداد والتداخل، وبين تونس العربية؛ بحقائق الهوية والتاريخ والثقافة والدين. واندلعت انتفاضات عديدة في عهده تقاوم توجهه هذا. وحين حل محله بن علي أقصى الركيزة الثانية، ألا وهي الدين؛ والدين في تونس يعني الإسلام، وبذل بن علي جهدا خارقا لتطهير تونس منه، ومع ذلك عجز عن انتزاع الدين من التكوين الثقافي الاجتماعي والنفسي للشخصية التونسية.
هذه ولادة جديدة تمكن تونس التفاعل مع محيطها، وتشد الأنظار إليها، وسوف تحصد مقابل دورها في إعادة الثقة إلى العمل الوطني، وفي إزاحة الستار عن إمكانيات الشعب الكامنة وقوته بأكثر مما تصور المستهزئون به، والساخرين من كل ما ينسب إليه؛ وصل الاستهزاء باللغة الوطنية حد وصفها باللغة الخشبية تارة والحنجورية تارة أخرى. ونعت التوجهات الشعبية والوطنية والقومية بالشعبوية والوطنجية والقومجية، وبعد أن كان الشعب والوطن والأمة قدس الأقداس امتهنوا على يد أولئك أيما امتهان، وها هي ثورة تونس تعيد الاعتبار للشعب والوطن والأمة. وانتصرت تونس بشعبها وشارعها ومواطنيها، وكانت من النضج إلى درجة أخذت فيها بمبدأ الحماية الذاتية، وتأمين المواطنين، وصون أرواحهم، والحفاظ على ممتلكاتهم، وعزز الجيش هذا التوجه، وبدلا من أن يكون عصا الطغاة الغليظة صنع من نفسه سياجا حاميا؛ متصديا لإجرام المليشيات الحزبية والعصابات البوليسية والرئاسية، وهذا جذب إليه الأنظار.
مدت تونس في وضعها الجديد بصرها عبر حدودها، وفكت قيود العزلة، ونفضت غبار التبعية، وأعادت الاعتبار إلى العوامل الداخلية وتضحيات الشعب، بعيدا عن الاستقواء بالخارج أو انتظار تدخل أو مساعدة من هذا أو ذاك. وهذا طريق صحيح للتغيير وإدامته. كل هذا وغيره اربك حسابات كثير.. رسمية وغير رسمية. وظهر ذلك واضحا في موقف ليبيا الرسمي وشبه الرسمي. العقيد معمر القذافي؛ وهو المفترض فيه على المستوى النظري والمبدئي أن يكون أول مؤيد وداعم لثورة تونس لطبيعتها الشعبية التي دعا لها في كتابه الأخضر، لكنه تناقض مع ما يدعو إليه، ومن الواضح أنه لم يتحمل رؤية مثل هذا التغيير على حدوده وبالقرب منه، فأشاد ببن علي الهارب من شعبه، وعمل على بث الخوف بين أبناء تونس قائلا: 'العائلات يمكن أن يُعتدى عليها وتتعرض إلى الذبح في غرف نومها. المواطنون قد يُقتلون في الشارع' ولم يكن هذا مستغربا وإن كان صادما. من ناحية أخرى بثت وكالة أنباء ليبيا؛ ومقرها لندن ومملوكة لسيف الإسلام، بثت أخبارا عن فساد في الجيش الليبي، ولم تتطرق إلى الفساد المدني، وبدا البث وكأنه قلق من الجيش، أو رسالة موجهة للجيش التونسي، الذي يرتبط بعلاقات تعاون مع الجيش الليبي، وقد أفصحت مصادر موثوقة بأن بن علي مر على القذافي وهو في طريقه إلى منفاه، أما الجزائر شغلتها توتراتها، وموريتانيا تعاني من الارتباك.
وتشهد مصر انقلابا في المزاج العام نتيجة شعور بدأ ينتاب أبناءها بأن ثورتهم تأخرت كثيرا، وظهرت كتابات تبحث عن أسباب ذلك التأخير، وقد اهتم ناشطون سياسيون بدراسة قام بها العالم المصري المعروف والناشط السياسي أشرف البيومي؛ عددت الأسباب، وعزا بعضها إلى سلوك من وصفهم بالنخبة؛ عاب عليهم هرولتهم وراء شخص له مكانة دولية وحاصل على جائزة نوبل للسلام لكنه بعيد عن تفاعلات المجتمع، وحسب رأيه أن الجائزة لا يحصل عليها مدافع عن حق الشعوب، وضرب مثلا بحق الشعب العراقي أو الفلسطيني المحاصر، ولا تعطى مكافأة على احتجاج ضد انتهاك حقوق المصريين، ويسأل عن إمكانية التفاف الشعب حول هكذا نخبة؟! وهو رأي مثير للجدل.
لا بد ان الكثيرين من الزعماء العرب الذين يتابعون تطورات الاوضاع في تونس بعد الثورة الشعبية العارمة يصلّون ليل نهار من اجل فشلها، ويراهنون على استمرار الاضطرابات الامنية، خاصة في دول الجوار، حتى يأمنوا على انفسهم، ويطمئنوا على دوام حكمهم.
فاللافت ان الغالبية الساحقة من الانظمة العربية استخدمت تدهور الاوضاع الامنية في العراق بعد تغيير النظام من اجل ضرب عصفورين بحجر واحد، الاول هو تذكير الشعب ليل نهار بان الاستقرار الذي تحققه الانظمة الحاكمة، ورغم دكتاتوريتها هو افضل الف مرة، والثاني التأكيد للحليف الامريكي بان البديل لهذه الانظمة هو الفوضى واعمال العنف والتفجير، وازدياد نفوذ الجماعات الاسلامية المتشددة.
ثورة الشعب التونسي فضحت هذه الادعاءات الزائفة، عندما اكدت ان البديل ليس اسلاميا وانما التعددية الحزبية الحقيقية، وان الانظمة الدكتاتورية الفاسدة يمكن تغييرها من الداخل وعبر الثورات الشعبية السلمية.
صحيح ان المجتمع التونسي له خصوصيته ويختلف عن شعوب عربية اخرى من حيث وجود طبقة وسطى راسخة، ومؤسسات مجتمع مدني متجذرة، ونسبة تعليم ربما تكون اعلى من غيرها في دول اخرى، ولكن الصحيح ايضا ان الاسباب والتراكمات التي دفعت بالشعب التونسي الى الثورة هي نفسها الموجودة في جميع الدول العربية الاخرى، ونحن لا نتحدث هنا، عندما نعمم، عن البطالة والفقر والجوع وتدهور الاحوال المعيشية فقط، وانما عن الفساد ونهب الثروات والغياب الكامل للعدالة الاجتماعية والحريات الفردية، واحترام حقوق الانسان ايضا.
السابقة الاهم التي سجلها الشعب التونسي بثورته هذه ـ في رأينا ـ تتمثل في الفرز الواضح بين الامن واجهزته المتعددة، السرية منها والعلنية، وبين المؤسسة العسكرية وقواتها المختلفة. فقد اصبح واضحا ان الامن انحاز الى الرئاسة والديكتاتورية القمعية، بينما اختارت المؤسسة العسكرية الوقوف الى جانب الشعب، او عدم توظيف بنادقها في خدمة الحفاظ على النظام واستمراره.
الرئيس زين العابدين بن علي راهن دائما على المؤسسة الامنية التي ولد من رحمها، واطمأن الى صلابتها وولائها، وثبت من خلال تطورات الاحداث ان رهانه كان في محله، فلم تتردد الاجهزة الامنية في اطلاق النار بهدف القتل على المحتجين الابرياء، وقتلت ثمانين منهم، وبعد ان تأكد لها فرار زعيمها، تحول بعضها الى ميليشيات، لخلق حالة من الفوضى والرعب في انحاء عديدة من البلاد.
ومن المفارقة ان عديد قوات الامن في تونس اكثر من نظيره في فرنسا الدولة التي يبلغ عدد سكانها ستة اضعاف عدد سكان تونس، والاهم من ذلك انها تملك احدث وسائل القمع والتعذيب غير المتوفرة في مختلف الدول الاوروبية.
' ' '
تفاصيل وقائع الساعات الاخيرة من حكم الرئيس بن علي قبل فراره الى المملكة العربية السعودية كمحطة 'ترانزيت' ما زالت غير معروفة على وجه الدقة، ولكن ما هو معروف بل شبه مؤكد ان قوات الامن عجزت عن حمايته عندما تظاهر خمسمائة ألف امام وزارة الداخلية احد ابرز رموز القمع في البلاد، وادركت ان المحتجين من النساء والرجال لا يخافون الرصاص، وهنا لجأ الرئيس الى الجيش الذي اضـــعفه متعمــــدا، واهمل تسليـــحه وتدريبه، على مدى السنوات العشرين الماضية لعدم ثقته به، ففوجــــئ بلحظـــة الحقيقة المؤلمة بالنسبة اليه، عندما لم يرفض قادة الجيـــش التصدي للمتظاهرين فقط، وانما اعطوه ثلاث ساعات للمغادرة فورا قبل اغلاقهم المجال الجوي للبلاد، فابتلع الرسالة المهينة، وفضل النجاة بحياته مع ما تبقى من افراد عائلته.
الامر المؤكد ان الكثيرين من وزراء الداخلية العرب، والمتميزين في حماستهم للقمع والتعذيب، سيفتقدون الرئيس بن علي الذي حول عاصمة بلاده الى 'قبلة' لهم، والمقر الدائم لاجتماعهم السنوي الذي يتداعون اليه في توقيت مقدس، يحرص الجميع على المشاركة فيه للتنسيق حول كيفية تبادل خبرات القمع والتنكيل بالشعب، والحفاظ على الانظمة الدكتاتورية.
لا نعرف اين سينقل وزراء الداخلية العرب قبلتهم، وسنتهم السنوية، ولا نستغرب ان تكون الرياض العاصمة السعودية هي المرشح الابرز، ليس لان الرئيس المخلوع بن علي اتخذها ملاذا آمنا فقط، بل لان الامير نايف بن عبد العزيز آل سعود وزير الداخلية السعودي والنائب الثاني لرئيس الوزراء، هو 'عميد' وزراء الداخلية العرب، والاطول بقاءً في منصبه.
وزراء الاعلام العرب سيفتـــقدون الرئيــــس بن علي حتــما، فهم يحمــلون له ولعهده ذكريات طيبة، الذين اهتدوا بتعاليمه حول كيفية تكميم الافواه، وكسر الاقلام، وتشديد الرقابة، واغلاق الاجواء في وجه المحطات الفضائية.
نظام بن علي سقط، ولذلك يجب المطالبة باسقاط جميع الاتفاقات التي جرى التوصل اليها في عهده او تحت مظلته، سواء من قبل وزراء الداخلية العرب، او قادة قوات الامن العرب، او حتى وزراء الاعلام. مثلما نطالب بتحويل مبنى الامانة العامة لوزراء الداخلية العرب الى متحف للقمع وادواته.
' ' '
من المؤكد ان الرئيس بن علي لن يفتقد وزراء الاعلام، ولا حتى زملاءهم وزراء الداخلية، بعد ان اتضحت لديه الصورة، واعترف علنا في خطابه الوداعي الاخير الذي ألقاه قبل هروبه، بانه تعرض الى عملية تضليل من قبل بطانته السيئة التي زعم انها حجبت عنه الحقائق كاملة، وابعدته عن الشعب.
اهل تونس الابية، الذين فاجأونا جميعا بصلابتهم، وطول نفسهم، واصرارهم على الاطاحة بالدكتاتور رغم فداحة الثمن هؤلاء الشرفاء لم يعودوا بحاجة الى التسلل الى فرنسا او اوروبا من اجل تنشق هواء الحرية، والتعبير بدون خوف، عن معاناتهم، والاسهاب في سرد وقائع الفساد ونهب المال العام على ايدي البطانة وافراد الاسرة الحاكمة، وهو الفساد الذي قدرته مؤسسة: Global financial integrity الدولية المتخصصة في مراقبة هذا الميدان، بأكثر من مليار دولار سنويا.
قبل الثورة في تونس كانت معظم طموحاتنا تتلخص في منع 'آفة التوريث'، طبعا الى جانب المطالب المزمنة بالديمقراطية والحريات، وبعد الثورة في تونس بات مصير انظمة التوريث على 'كف عفريت'. فما يشغل بال الدكتاتوريين العرب حاليا هو كيفية كسب بعض الوقت لانقاذ ما يمكن انقاذه، وتهريب اكبر قدر ممكن من الاموال الى دول لا تصل اليها جماعة 'الويكيليكس'، وحفر انفاق تحت قصور حكمهم باتجاه المطار لتأمين هروب آمن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق