1-
في 1972قررت الدولة ممثلة في البرلمان أن 'تكتشف' الفنتــــة الطائفية، وقتها حمل الدكتور العطيفي وكيل مجلس الشعب مهمة البحث عن أسباب الفتنة. أعد الرجل تقــــريره بدقه موظف، وعرضه على المجلس، وطلبت الرئاسة نسخة منه.
وقتها كانت البلد كلها مشغولة بضباب السادات، ومظاهرات الطلبة تملأ شوارع المحروسة بالغضب على خليفة عبد الناصر الذي بدا مترددا في إطلاق شرارة التحرير. وقتها أيضا بدأت الشروخ الطائفية في الاتساع، وبدلا من ظهور العذراء في 1968 'لدعم الوطن المصاب' كما قالت الكنيسة في بيانها، ظهرت على السطح' زبيبة' الرئيس، وخلفها 'لحية' المرؤوس وتوالت المصائب من القصر إلى 'العشة' لتبدأ حكايات الدم.
حمل تقرير العطيفي الدولة مسؤولية 'الدم الطائفي'، جعلها بحكم الدستور 'مسؤولة مسؤولية مطلقة عن صيانة وحماية وتعزيز الوحدة الوطنية' وطالب بضوابط وخطوات محددة تقضى على بذور الطائفية. لكن الرئاسة المشغولة بـ'لصق الزبيبة' تارة وبـ'الأولاد المشاغبين بتوع عبد الناصر' تارة أخرى، كانت بعيدة عن أوجاع بلد زلزلت النكسة كيانه، وتركت شعبه بلا حلم ولا أمل ولا تغيير حتى أنفجر الدم الطائفي في الشارع.
2
في 1981 وبعد اغتيال الرئيس السادات، كان على مبارك أن يعود بالبطريرك الأكبر إلى كرسي الباباوية الشاغر، كان عليه أن يطلق 'كام بيان' حتى يتوهم الجميع أن الأمور سوف تتغير، وأن الرئيس الجديد يختلف وبحق عن سلفه صاحب الزبيبة.
قاد مبارك أيامه الأولى بحذر فلاح، وبطء موظف بدرجة سكرتير، ونفاد صبر طيار لم ير الناس إلا من أعلى، ولم يشعر بقيمتهم سوى كأهداف للضرب. كانت مواجهات السلطة الأولى مع مجموعات مختلفة من 'مخلفات أهل الدين' رأت في نفسها القدرة والقابلية لتغيير وجه المحروسة، وقررت أن تحول أول دولة في التاريخ إلى 'إمارة' من العصور الوسطى. أصبح الدم عنوان المرحلة، فمن بيت إلى شارع، ومن قرية إلى مركز، ومن منطقة إلى محافظة كانت الجماعات المسلحة تعيد ترتيب مصر، وبينما الأقباط ينكمشون أكثر فأكثر في حضن كنيستهم الأم، كانت البيانات التحذيرية تخرج من الجماعات المسلحة تدعو لـ 'دولة إسلامية لا يدخلها كافر'. في الوقت نفسه جاء قرار مبارك ووزراء داخليته وأجهزته العديدة بـ'الضرب في سويداء القلب' ففي الفترة من بداية حكمه وحتى 1997 كان عدد المعتقلين على خلفية العنف مع الدولة نحو 50 ألفا. وبينما انخفضت وتيرة العنف ضد الأقباط برزت الدولة هذه المرة كراعية لعنف آخر، عشوائي في مجمله، ومنظم في بعضه ودخلت مصر نفق الطائفية المؤسسية.
3
في 11نيسان( أبريل )الجاري، كان موعد آخر مع تقرير أخر هذه المرة جاء مستقلا وحازما وبعيدا عن 'شوائب الموظفين'. دراسة تحليلية حقوقية رصدت 53 حادثا طائفيا وقعت في مصر خلال عامين. الحوادث ليس مجرد 'صدف' كما يحاول أن يروح النظام، وليست أيضا من أفعال 'المختلين عقليا' كما تردد الداخلية 'بتناحة' لا نظير لها سوى 'برودة' رد الرئيس على مجزرة نجع حمادي عشية عيد الميلاد الماضي في خطاب باهت بلا طعم، خرجت كلماته غائمة كمستقبل مصر، ولا مبالية كقائلها، وبعيدة عن المنطق ككل شيء يحكم هذا البلد المفتون.
التحليل الذي قدمته المبادرة المصرية للحقوق الشخصية لم يكتف برصد الحالات الثلاث والخمسين التي جرت في 17 محافظة من أصل 29 تشكل المحروسة كلها. جاء التحليل ليرسم خطا بيانيا مرعبا في تصاعده وتواتر أحداثه، حيث ربط خريطة الفقر بخريطة الدم، وكشف عن 33 حادثا في محافظات الصعيد مقابل 20 حادثا في بحري. وبينما أصر محافظ المنيا المتحدث السابق باسم وزارة الداخلية على نفي أي حديث عن الفتنة الطائفية في محافظته، رصد التقرير وقوع مصادمة طائفية كل 35 يوما بالمنيا، واتساع وتيرة العنف في محافظة يقودها 'صحاف الداخلية' السابق لتشتعل 7 مراكز من أصل 9 يكونون المحافظة كلها.
اللافت في التحليل ليست الأرقام المفزعة فقط، لكن ايضا رصد الباحثين عادل رمضان وحسام بهجت لرد فعل أجهزة الدولة على ما يحدث. ففي الوقت الذي من المفترض أن تتدخل الدولة وبسرعة لفض أي اشتباك بين طائفتين من المصريين، يرصد التقرير تراخي جهاز الأمن وتورط ضباطه في التحريض، واحتجاز المواطنين كرهائن واجبارهم على عقد صلح حتى في قضايا الجنايات التي لا يجيز فيها القانون المصري فكرة الصلح أصلا. كما يرصد التقرير تهاوي القيم القضائية عند النيابة العامة فرغم تحقيقاتها إلا أن دفوعها وما تسنتد إليه في القضايا ذات الطابع الطائفي لايرقى لإصدار حكم وهو الأمر الذي أعطى 'حصانة' للمجموعات من القتلة تعودت على انتهاك حق المواطنين في الحياة.
رصد تقرير المبادرة المصرية أرقاما لا يمكن أن تمر دون حساب. فهناك 13 حالة انتقام جماعي من مسيحيين ضد مسلمين وواحدة من مسلمين ضد بهائيين خلال عامين. فضلا عن تحول 16 مشاجرة إلى صدام طائفي ينتهي بجرحى وقتلى هذا بخلاف 7 محاولات لاستهداف الكنائس أحدها محاولة لتفجير كنيسة بالقاهرة بعبوات ناسفة محلية الصنع أما عن القتل على الهوية فحدث ولا حرج.
4
ذهب التحليل الموجع في كل إتجاه، راصدا أخطاء حكومة عمياء، وإنهيار دولة مزقها الفقر والعنف والتسلط الأمني، وأعاد رسم خريطة 'أم الدنيا' هذه المرة بدماء الضحايا الذين سقطوا في 53 مواجهة طائفية وقعت خلال عامين فقط. بدت الدراسة التحليلية كجرس إنذار، أخشى أن يكون أخيرا، جرسا لمن رفض في قصره ومنصبه وحشمه وأحلامه بتوريث عاجل وهادئ أن يسمع صوت مصر المفتونة أو يشعر بأوجاع مواطنيها ورعبهم من القادم. جرس إنذار أشبه بتلويحة وداع من شعب لحكومة، ومن دولة إلى نفسها بعد أن مالت المركب وبدأ الجميع يدرس خطط الفرار من الغرق.
جرس الإنذار الذي أطلقته المبادرة المصرية يبعد أي حديث عن 'الرئيس المريــــض' ويحــــيلنا إلى 'البلد الموجوعة'. هذا التقرير الذي تجاوز تقرير العطيفي بمراحل ربما يجد الآن مكانه في أرشيف 'الموظف العمومي' إياه، ذلك الموظف الذي يجلس ويسجل ويراقب ويلاحظ ويقدم الشاي كل صباح لرئيس يعيش أحلاما سعيدة في شرم الشيخ ولا يتحرك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق