الأحد، ديسمبر 07، 2025

السعار العنصري ضد العرب والمسلمين

 تتصاعد تدريجياً في فرنسا منذ ربع قرن حالة من السعار العنصري ضد العرب والمسلمين، وصلت في السنوات الأخيرة في الأوساط اليمينية والوسطية إلى ما يشبه الهستيريا، مُخرجة في التصريحات السياسية وفي الحوارات المتلفزة وفي بعض الإجراءات القانونية أو في ممارسات الشرطة الفرنسية كل ما تبقّى في هذه الأوساط من إرث استعماري ومن جهل وكراهية.

وثمة أسباب كثيرة لذلك. من بينها «الريبة» (على حدّ التعبير الباحث أوليفييه روا) التي يتسبّب بها الحضور المتزايد للإسلام في الفضاء العام الفرنسي، إن في ما خصّ مظاهر التديّن أو الالتزام بملبس محدّد أو المجاهرة بالصيام أو انتشار المطاعم ومحلات بيع المآكل «الحلال»، في بلد درجت علمانيّته المتشدّدة على تهميش المظاهر الدينية الكاثوليكية أو عدم الاكتراث بها وبالمظاهر اليهودية لندرتها ولاعتبارها غير غريبة أصلاً، أي غير وافدة من خارج السياق التاريخي الوطني والأوروبي وديموغرافيته.
ومن بين هذه الأسباب، أن هذا الحضور المسلم أو العربي تبدّلت خصائصه في نفس مرحلة تمدّد التديّن وملامحه لدى بعض أوساطه، فلم يعد مقتصراً على جيل أو جيلين من المهاجرين المغاربيين أو الماليّين والسنغاليين ممّن وفدوا كيَد عاملة وأقاموا في ضواحي شعبية حول المدن الكبرى في الخمسينات والستينات أو في مدن جديدة معزولة استُحدثت لهم ابتداءً من السبعينات. فالجيل الثالث، الفرنسي المولد واللغة والهوية، شهد أثر التعليم والارتقاء الاجتماعي والالتحاق بمهن كانت حكراً على «البيض»، وشهد أيضاً بروز خطابات راديكالية ضدّ التمييز، بعضها من منطلق إسلامي، ولم يعد ممكناً لدى أبنائه وبناته، حتى من غير المستفيدين من تبدّل الأحوال الاجتماعية، القبول باستسهال انتهاك حقوقهم، لا سيما من قبل الشرطة، التي آثر بعض مسؤوليها وعناصرها التصرّف في المناطق المأهولة بمهاجرين أو بفرنسيين من أصول مهاجرة وكأنهم ما زالوا في مستعمرات يلقّنون أهلها الدروس بفوقية وازدراء.
ولا شك أن الهزيمة الفرنسية في الجزائر ثم طرد قرابة المليون فرنسي منها، وسوء استقبالهم في فرنسا من قبل السلطات والبلديات المعنية بإيوائهم، ثم وصول دفعات متلاحقة من المهاجرين الجزائريين للعمل أو الدراسة في المدن الفرنسية الكبرى، أثّرت عميقاً في شكل العلاقة التي نشأت (وما زالت) بين الإدارة الفرنسية والمهاجرين هؤلاء والمتحدّرين منهم.
ومن بين أسباب تصاعد العنصرية كذلك، تعاظم قوة اليمين المتطرّف، وهو تعاظم تغذّى من خمسة عوامل أساسية. العامل الأول، تأطيره بقايا التيارات الفاشية التي قُمعت أو جُرّمت ثقافاتها وخطاباتها بعد الحرب العالمية الثانية، ونجاحه في ربطها بالسياق الصراعي خلال الحرب الجزائرية حيث خدم العديد ممّن كانوا ناشطين فيه، أولهم جان ماري لوبان مؤسس الجبهة الوطنية، وانخراطهم المباشر بعد ذلك في الحياة السياسية في فرنسا وترشّحهم الدوري للانتخابات على نحو عوّد الجميع على حضورهم في المشهد العام وقلّص مع الوقت من إحالة هذا الحضور إلى مرجعيته الفاشية المجَرَّمة.
العامل الثاني، حقد الفرنسيين المطرودين من الجزائر على الإستبليمشنت الفرنسي الذي احتقرهم وعلى المهاجرين الجزائريين الوافدين إلى فرنسا، وتكتّل قسم منهم في الجبهة الوطنية أو على الأقل تماسهم السياسي معها ومع خطابها. العامل الثالث، استغلال رفض شرائح اجتماعية، مزارعين أو في أوساط عمّالية، الاتفاقات الاقتصادية التي مهّدت لقيام الاتحاد الأوروبي، على اعتبار أن هذه الاتفاقيات، كما العولمة، تقوّض السيادة الفرنسية وتسمح لسلع أرخص ولعمالة أقل كلفة (من أوروبا الشرقية كما من إيطاليا وإسبانيا والبرتغال) «باجتياح» فرنسا.
العامل الرابع، كراهية الكاثوليك المحافظين وأسر الأرياف المتواضعة اجتماعياً للنخبة السياسية الفرنسية، يمينية جمهورية (ديغولية) كانت أو اشتراكية يسارية، لكونها شديدة المركزية الباريسية، وشديدة الغرور والابتعاد عن القيم العائلية، وقليلة التجدّد أو قليلة القابلية للسماح للوافدين الجدد إلى الحلبة السياسية بمنافستها على السلطة. أما العامل الخامس، فهو كراهية الإسلام ديناً وكراهية مريديه في لحظة تزايد حضورهم (ومشهديّة هذا الحضور) التي أشرنا إليها آنفاً، وربط المشاكل الفرنسية الاقتصادية والاجتماعية ثم مشاكل البطالة بهم.
ولا شكّ هنا أن سلسلة تطوّرات عالمية سمحت للعنصرية خطاباً بالاتساع والاستفادة من خوف (مبرّر أو مصنوع) ومن خطابات إعلامية وسياسية نحت أكثر فأكثر للربط بين الهوية الإسلامية وبين التطورات هذه، وأولها وأخطرها هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001 التي استهلّت حقبة جديدة في التاريخ المعاصر. فالهجمات القاتلة وما تلاها من حروب «ضد الإرهاب» لا نهاية لها، سهّلت لليمين المتطرّف ربط الهجرة المسلمة والحضور المسلم المتعاظم بالخطر الأمني وبالهجمات والتفجيرات التي استمرّت بموازاة الحروب الأمريكية في أفغانستان والعراق ثم عبر عمليات الاغتيال والاستهداف في مناطق عديدة من باكستان واليمن.
وركب موجة الربط هذه اليمين الفرنسي بمعظم أطيافه، فسعى نجمه الصاعد وقتها نيكولا ساركوزي، إلى اعتناق مفردات اليمين المتطرّف بحجة استقطاب قواعده، وتصرّف خلال تولّيه وزارة الداخلية ابتداءً من العام 2004 بنزق عنصري وأعدّ قانوناً لمنع الحجاب وغيره من الرموز الدينية في المدارس، منتهكاً فلسفة العلمانية الفرنسية التي تنصّ دستورياً على علمانية الدولة، وليس المجتمع، وحيادها تجاه الأديان ومعتنقيها. واستمرّ ساركوزي على هذا المنوال بعد انتخابه رئيساً، محاطاً بشخصيات أكثرت من التعبير عن عنصريّتها (دون أن يحول الأمر من تذلّلها وتذلّل ساركوزي إياه لأنظمة عربية مسلمة، مثل نظام القذافي، للحصول على الرشاوى، على ما حكم القضاء الفرنسي مؤخراً).
وفاقم الأمر في تلك المرحلة أيضاً تحوّل الصدامات المتفرّقة بين الشرطة والشبّان المهمّشين (والخارجين أحياناً عن القانون) في الضواحي المدينية والعمالية السابقة التي تُركت من دون تنمية منذ نهاية الثمانينات – وهي كانت أصلاً – قليلة الخدمات والمرافق، إلى صدامات واسعة صارت تتسبّب دورياً بعد العام 2005 بضحايا وبتوتّرات مستديمة وبعسكرة للشرطة تتيح لها المزيد من العنف وحصانته.
وعلى المنوال إياه، شكّل صعود تنظيم داعش وسفر مئات الفرنسيين وآلاف المغاربيين إلى سوريا للالتحاق به، بالتزامن مع موجات الهجرة السورية، ثم الأفريقية عبر الحدود الليبية، ابتداء من العام 2014، نحو أوروبا، ومن ثمّ الحرب الغربية ضدّ داعش والعمليات الإجرامية التي نفّذها مقرّبون من التنظيم في باريس في العام 2015 ثم في نيس في العام 2016، حلقة جديدة ضمن حلقات تحريض اليمين المتطرف وبعض اليمين الجمهوري ضد المسلمين بحجة التهديد الأمني وتحوّله إلى واقع دموي.
ويمكن القول هنا إن العداء للإسلام والمسلمين اقتبس في الأوساط اليمينية نفس العداء الذي مارسته تياراتها قبل عقود ضد اليهود في ما يُعرف بمعاداة السامية. ذلك أن النظريات التآمرية والتعميمات والخوف وتحميل المسؤوليات عن كل أزمة لليهود في السابق هي نفسها تقريباً ما نشهده منذ مدة، مع استبدال لليهودي بالمسلم، ومع فارق أساسي هو الخشية العددية، إذ أن المسلمين صاروا في فرنسا (وأوروبا عامة) كتلة ديموغرافية كبرى تفوق بأضعاف أعداد اليهود. المفارقة أن أكثر المعادين للسامية في أوروبا، سابقاً وحاضراً، يؤيدون على نحو شديد التعصّب إسرائيل، لأنها جمعت أكبر عدد من اليهود بعيداً عنهم، ولأنها تقاتل «مسلمين» وتبعدهم عن تهديد أوروبا نفسها.
وهذا كلّه يفسّر جوانب من التأييد المطلق لإسرائيل منذ 7 تشرين الأول (كتوبر) 2023، حيث اجتمع اليمين المتطرّف واليمين مع الوسط وبعض اليسار الاشتراكي، القريب تاريخياً من اليسار الصهيوني،على دعم تل أبيب في حربها الإبادية. ولا تبدو الأمور مقبلة على تبدّل أو تحوّل في هذه الأوساط وفي الفئات العمرية المتقدّمة. ذلك أنها ستزداد عنصرية وكراهية للفلسطينيين وللعرب والمسلمين عامة كلّ ما ازدادت سعة حضور هؤلاء في الجامعات الغربية، طلاباً وأساتذة، وفرضوا أنفسهم بكفاءتهم في المجالات الطبية والقانونية والإعلامية والأدبية والفنية والسياسية، وكلّ ما نشطوا في التظاهرات والاعتصامات والعمل النقابي.وهي جميعها أمور بدورها لن تتبدّل.
ولا أمل بالتالي من انحسار للأزمات في المرحلة المقبلة. الأمل الوحيد هو في الجيل المديني الجديد الذي يبدو حتى الآن متحرّراً إلى حدّ بعيد من عقد أسلافه.

ليست هناك تعليقات:

التحليل السياسي: غياب المشاركة الفعالة في سياق العلوم السياسية، يُشار إلى عدم المشاركة الشعبية الواسعة باسم "اللامبالاة السياسية" أو "الإحجام عن المشاركة". وقد تترتب عليه النتائج التالية: 1. تآكل الشرعية والمحاسبة ضعف المحاسبة (Accountability): عندما يغيب الضغط الشعبي أو التصويت الفعال، يقل الدافع لدى المؤسسات الحاكمة لتبرير قراراتها أو الاستجابة لمطالب المواطنين. تصبح الحكومة أقل محاسبة على فشلها أو سوء إدارتها. تضييق المجال العام: يؤدي غياب المشاركة إلى سيطرة فئة ضيقة على الفضاء السياسي والإعلامي، مما يقلل من التعددية ويقمع المعارضة أو الآراء البديلة. تغيير الدوافع: قد تتحول دوافع صانعي القرار من خدمة المصالح العامة إلى خدمة مصالح النخبة أو المجموعات الضيقة التي تدعم استمرار الوضع الراهن. 2. خطر "دولة النخبة" سياسات غير تمثيلية: قد تُصمم السياسات والتشريعات لخدمة مصالح النخبة الاقتصادية أو الأمنية أو السياسية، بدلاً من تمثيل قاعدة واسعة من الشعب. استمرار المركزية: تبقى السلطة والقرارات مركزية للغاية، مما يعيق التنمية المحلية ويضعف الحكم الرشيد على المستويات الأدنى. 💰 التحليل الاقتصادي: تداعيات غياب الإصلاح اقتصاديًا، يرتبط استمرار الوضع الراهن دون مشاركة شعبية في دفع عجلة الإصلاحات بالنتائج التالية: 1. استمرار التحديات الهيكلية نقص الشفافية في المشروعات: عندما تغيب الرقابة الشعبية والإعلامية، تزيد احتمالية تخصيص الموارد بشكل غير فعال أو وجود فساد في المشروعات الكبرى، مما يقلل من عوائد الاستثمارات. الاقتصاد غير الرسمي: قد يستمر تضخم الاقتصاد غير الرسمي (الخفي)، مما يحرم الدولة من الإيرادات الضريبية اللازمة لتمويل الخدمات الأساسية (الصحة والتعليم). 2. تفاقم الأزمات المالية تراكم الديون: قد يؤدي غياب المساءلة والشفافية إلى استمرار الاقتراض دون تحقيق عوائد اقتصادية كافية، مما يزيد من أعباء الدين العام وتكلفة خدمته، ويحد من قدرة الدولة على الإنفاق على التنمية البشرية. انخفاض الثقة والاستثمار: يرى المستثمرون المحليون والأجانب في عدم الاستقرار السياسي وغياب المحاسبة مخاطر تزيد من تكلفة ممارسة الأعمال. هذا يؤدي إلى تراجع الاستثمار الأجنبي المباشر ونزوح رؤوس الأموال المحلية. 3. التفاوت الاجتماعي تزايد الفجوة: تميل السياسات التي تخدم النخبة إلى تعميق التفاوت في الدخل والثروة، حيث يستفيد الأثرياء من الفرص المتاحة بينما تتدهور أوضاع الطبقة الوسطى والفقيرة. ضعف التنمية البشرية: يتم إهمال القطاعات التي تعتمد عليها الطبقات الفقيرة (كالتعليم العام والرعاية الصحية) لصالح مشروعات ذات أولوية مختلفة، مما يعيق حركة الحراك الاجتماعي الإيجابي.

 التحليل السياسي: غياب المشاركة الفعالة في سياق العلوم السياسية، يُشار إلى عدم المشاركة الشعبية الواسعة باسم "اللامبالاة السياسية"...