الثلاثاء، يونيو 26، 2012

"عكاشة" يشن هجوماً ضارياً ضد المجلس العسكرى.. ويدعو للانقلاب عليه.. ويدعى انتماء رئيس المخابرات الحربية للإخوان.. ويدعو لحصار مجلس الشعب ومقار الوزارات لمنع سيطرة "الإخوان" على البلاد



*    *    *    *
يبدو واضحاً لمن يتابع المشهد الثقافي والأكاديمي في تونس أن ثمة تقسيمات حادة تسود هذا المشهد، بين نخبة علمانية تدير غالب المراكز البحثية والمواقع الأكاديمية في تونس، ونخبة أخرى يمكن اعتبارها متصالحة مع هويتها وتراثها.. وكان مما لفت انتباهي أن تمايز النُخب في تونس وتصنيفها يختلف عما هو سائد في العالم العربي. ففي عدد من دول العالم العربي يتم تصنيف النخب الثقافية عادة إلى (علمانيين وإسلاميين) أو (ليبراليين وإسلاميين)، أي أنه تصنيف على أساس أيديولوجي أو سياسي، دون أن ينفي هذا عن العلمانيين أو الليبراليين صفة الإيمان بالإسلام بحسب تفسيراتهم وقراءاتهم الخاصة.. أما في تونس فالتصنيف الذي سمعته عدة مرات هو يميز بين نخبة لائكية (لا دينية) ونخبة مؤمنة!. أي أنه تصنيف على أساس الإيمان بين (لاديني ومؤمن)، ودون أن يعني هذا التصنيف أن الطرف (المؤمن) هو (إسلامي) بالمعنى الأيديولوجي السائد اليوم.. أيضاً ثمة من يقوم بتصنيف الوسط الثقافي في تونس بين نخبة متخاصمة مع الهوية والتراث، ونخبة متصالحة معها.
والنخبة العلمانية ـ المتخاصمة مع التراث ـ في تونس تتضمن أسماءً ثقافية لها حضورها في الوسط الثقافي العربي، في مقدمتهم الدكتور عبدالمجيد الشرفي الذي كان يرأس مركز البحوث في الجامعة التونسية ـ تُسمى جامعة (منّوبة) نسبة للمنطقة التي توجد بها مقرات الجامعة ـ قبل أن يتقاعد منذ سنوات، ويُعد الشرفي أحد أساتذة الجيل في تونس، حيث أشرف على المئات من رسائل الدكتوراه، ويدين له الكثير من المثقفين ـ حتى من المُختلفين معه ـ بأستاذيته وريادته في تعليم الفلسفة والفكر والإسلامي.. وللشرفي العديد من المؤلفات، من أهمها كتاب (الفكر الإسلامي في الرد على النصارى حتى نهاية القرن الرابع الهجري / العاشر الميلادي) الذي صدر عام 1986م، وهو في الأصل رسالته للدكتوراه التي قدمها للجامعة التونسية في العام 1982م، وكانت تحت إشراف د.محمد الطالبي. وكتاب (الإسلام والحداثة) الذي صدر عام 1990م، و(تحديث الفكر الإسلامي) الذي صدر عام 1998م، و(الإسلام بين الرسالة والتاريخ ) الذي صدر عام 2001م، والعديد من الكتب الأخرى.
ويؤكد د.الشرفي بشكل متكرر أن منهجه البحثي يقوم على اعتبار: (أن في الإسلام ثلاثة مستويات يتعيّن عدم الخلط بينها. الأول: هو مستوى النص التأسيسي الذي هو ركيزة الدين ومرجع وحدته ـ أي القرآن وربما ما يراه صحيحاً من السُنة ـ.. والثاني: مستوى تأويلات هذا النص وتطبيقاته التاريخية.. أما الثالث: فمستوى الإيمان الشخصي المستعصي على التحديد والحصر والتنميط). ثم يؤكد الشرفي أن: (كل دراساته وأبحاثه تهتم فقط بالمستوى الثاني من هذه المستويات، لأنه مستوىً بشري نسبي متعدد بتعدد الأمكنة واختلاف الأزمنة والبيئات والظروف وغيرها من العوامل).
كتاب الطالبي (ليطمئن قلبي)
طبعاً وإن بدا هذا الكلام منطقياً من حيث التأسيس، إلا أن غالب العنف النقدي الذي نراه اليوم في كتب غلاة العلمانيين، بشكل يطال غالب قطعيات الدين وثوابته، ويكاد يفرّغ الإسلام من أصوله، يأتي دائماً من (مدخل التأويل)، الذي يعتمد على استخدام نظريات حديثة أنتجتها المنظومة البحثية الغربية، وتقوم على تعدد أنماط قراءة النصوص ضمن حقول اللغويات والألسنيات وعلوم النص، فنتج عن ذلك تأسيسٌ لنظرياتٍ عديدةٍ تتباين في أنماط تعاطيها مع النصوص، كالبنيوية والتفكيكية والسيميائيات والهرمونيطيقيا وسواها.. والحديث في هذا المجال واسع جداً ولا أريد الاستطراد فيه.
ولأن الدكتور عبدالمجيد الشرفي يعتمد على (مستوى التأويل) الذي يراه (مستوىً بشري نسبي متعدد بتعدد الأمكنة واختلاف الأزمنة)، هو يشرف اليوم على سلسلة الدراسات التي صدرت مؤخراً تحت عنوان (الإسلام واحد ومتعدد)، وصدر عنها حتى الآن ما يقارب العشرين كتاباً، منها: (إسلام الفقهاء)، و(إسلام عصور الانحطاط)، و(إسلام المتصوفة)، و(الإسلام السني)، و(الإسلام الشيعي)، و(إسلام المجددين)، و(إسلام المتكلمين)، و(إسلام الفلاسفة)، و(إسلام الخوارج)، و(إسلام الأكراد)، و(الإسلام الشعبي)، و(الإسلام الحركي)، و(الإسلام الآسيوي)، و(الإسلام الأسود)، و(الإسلام العربي)، وسواها من عناوين.
وتصدر هذه السلسلة بدعم وتمويل من (رابطة العقلانيين العرب) التي تأسست في شهر نوفمبر من العام 2007م، وتتخذ من باريس مقراً لها. حيث تضم هذه الرابطة مجموعة من المفكرين والباحثين العرب، الذين يتبنون موقفاً علمانياً حاداً يحمل كثيراً من التطرف تجاه التيارات الإسلامية والفكر الإسلامي الحديث، حتى إن بعضهم لا يرى فرقاً بين يوسف القرضاوي وأسامة بن لادن، ولا بين طارق رمضان وأيمن الظواهري!. وتضم رابطة العقلانيين العرب في صفوفها العديد من الأسماء المعروفة في الأوساط البحثية، كعزيز العظمة، وجورج طرابيشي، وعبدالمجيد الشرفي، والعفيف الأخضر، ومحمد الهوني، ورجاء بن سلامة، وجلال صادق العظم، ونصر حامد أبو زيد، وسيد القمني، ومحمد الحداد، وعبدالرزاق عيد، وسواهم.. ولهم موقع اسمه (الأوان) على شبكة الإنترنت.
وإذا ما عدت للحديث عن النخبة العلمانية في تونس، فهي إضافة إلى رمزية اسم عبدالمجيد الشرفي، تتضمن العديد من الشخصيات النشطة في المجال البحثي. كالدكتور وحيد السعفي الذي يُعد أحد أبرز تلامذة الشرفي، وتولى السعفي رئاسة مركز البحوث في الجامعة التونسية بعد تقاعد الشرفي، وقد أصدر عدة كتب منها (العجيب والغريب في كتب تفسير القرآن) عام 2006م، و(في قراءة الخطاب الديني) عام 2008م، وسواهما.
وكذلك الدكتور محمد الحداد، الذي وإن كان على اتفاق مع المنظومة الفكرية للشرفي، إلا أن بينهما ـ فيما يبدو ـ خصومة فكرية.. وقد أصدر الحداد العديد من الكتب، من أهمها: (حفريات تأويلية في الخطاب الإصلاحي العربي) عام 2002م، و(مواقف من أجل التنوير) عام 2005م، و(البركان الهائل.. في آليات الاجتهاد الإصلاحي وحدوده) عام 2006م، و(الإسلام: نزوات العنف واستراتيجيات الإصلاح) عام 2006م، و(ديانة الضمير الفردي) عام 2007م.. وبسبب الموقف العلماني الصارم للحداد، ولكونه من مؤسسي رابطة العقلانيين العرب، فقد دُهشت حين حكى لي أحد الأصدقاء أنه كان قبل عامٍ بصحبة د.محمد الحداد في زيارة إلى مكة لتأدية مناسك الحج، وأن الحداد كان حريصاً على أداء المناسك بكل دقة، بل كان لا يقبل الترخّص في بعض المسائل الفقهية أثناء الحج، ويصر على الالتزام بالقول الأحوط!. وربما بدا لي في هذا الفعل مفارقة غير مألوفة، حين نجد عند ذات الشخص (علمانية جذرية) مفصولة تماماً عن بعض الممارسات التعبدية الفردية!.
أيضاً يمكن أن أذكر عدداً من الأسماء التي تُعد من أبرز النُخب العلمانية في تونس، كالدكتور حمادي بن جاب الله، الذي يُعد من كبار الفلاسفة اللائكيين في تونس، رغم أن أباه كان مُعلماً للقرآن. لذلك يحفظ د.حمادي القرآن باستحضار جيد، وهو كذلك مُطّلع بشكل واسع على التراث الإسلامي.. وكذلك العفيف الأخضر، الكاتب المعروف بهجومه الشرس على كل المظاهر الإسلامية، ومن أبرز الداعين إلى تجفيف منابع التديّن. ورغم أن العفيف الأخضر يكتب بغزارة، ونشر آلاف المقالات، إلا أنه لم يُصدر سوى كتب محدودة، من أهمها كتاب (الموقف من الدين) الذي صدر عن دار الطليعة في العام 1973م. وكان الشيخ راشد الغنوشي ـ زعيم حزب النهضة الإسلامي ـ قد ألمح في أحد مقالاته إلى أن العفيف الأخضر هو المؤلف الحقيقي لكتاب (المجهول في حياة الرسول) الذي صدر في العام 2005م، وحمل اسماً مستعاراً هو (الدكتور المقريزي)، حيث تضمن هذا الكتاب كثيراً من التشكيك والإساءة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام. إلا أن العفيف الأخضر نفى ذلك، واتهم الغنوشي بالتحريض على قتله. ويقيم العفيف الأخضر في باريس منذ العام 1979م، وهو في وضع صحي حرج منذ بضع سنوات.
محمد الطالبي
وكذلك الدكتورة ألفة يوسف، التي نشأت هي الأخرى في أسرة محافظة، وكانت تمثل صوتاً معتدلاً ومحافظاً في الوسط الثقافي التونسي، ولكنها شهدت قبل أعوامٍ قليلة تحولاً حاداً في الموقف. وقد دشنت هذه التحول بكتابها الشهير (حيرة مسلمة) الذي صدر في العام 2008م وأثار جدلاً واسعاً، وتقول فيه أن الإسلام الذي نعرفه اليوم هو من اختراع الفقهاء، وتدعو فيه للسماح بالمثلية الجنسية، وتشن هجوماً عنيفاً على أحكام الإسلام المتعلقة بالمرأة.
وأيضاً الدكتورة آمال قرامي التي عُرفت بمواقفها الحادة والتقويضية لكثير من أحكام الإسلام، وخصوصاً تلك المُتعلقة بالمرأة، ودعوتها لتطبيع المثلية الجنسية في المجتمع. وقد عبّرت عن كثير من هذه الأفكار في كتابها الضخم (الاختلاف في الثقافة العربية الإسلامية .. دراسة جندرية) الذي صدر عام 2007م في قرابة الألف صفحة عن دار المدى الإسلامي، وأساس هذا الكتاب هو أطروحتها للدكتوراه التي أُعِدت تحت إشراف الدكتور عبدالمجيد الشرفي.
وكذلك يمكن الإشارة في هذا الإطار إلى الدكتورة رجاء بن سلامة، العضو في رابطة العقلانيين العرب، والمُحاضرة في الجامعة التونسية، والتي أصدرت عدداً من الكتب، من أهمها: (بنيان الفحولة) عام 2005م، و(نقد الثوابت) عام 2005م، و(في نقد إنسان الجموع) عام 2008م، وسواهم. وهي أيضاً من المتخصصات بالدراسات الجندرية، وكتبت كثيراً من النقد لوضع المرأة في الإسلام.
وأيضاً يمكن الإشارة إلى الدكتور محمد المزوغي المتخصص في الفلسفة الإسلامية، والمقيم في إيطاليا منذ أواخر الثمانينيات، وقد أصدر ثلاثة كتب، هي: (نيتشه، هايدغر، فوكو. تفكيك ونقد) عام 2004م و(عمانويل كانط. الدين في حدود العقل أو التنوير الناقص) عام 2007م، و(العقل بين الوحي والتاريخ) 2007م. ويعتبر المزوغي من تيار المثقفين اللائكيين في تونس، حيث لا يتردد في التصريح بمواقفه الرافضة للأديان، والناقضة لكل المسلمات الدينية، فيقول مثلاً في كتابه (عمانويل كانط.. الدين في حدود العقل) والصادر عن دار الساقي: (طبقاً لمبادئ المنطق والعقل النظري والعملي والحس الإنساني السليم، إن النبوة باطلة ولا حقيقة لها)، لذا هو يعتبر أن (الوحي) لا يعدو أن يكون إما خيالاً أو من صُنع الأتباع، إذ كيف يمكن إثبات الوحي إذا كان الموحي ذاته (الله عزوجل) غير موجود!!. وهكذا يواصل المزوغي باسترسال سطحي إطلاق نتائجه الكبرى دون أي برهنة أو حتى محاولة التبرير لهذه النتائج!، التي باتت اليوم مُبتذلة ومرفوضة حتى عند أكثر الدوائر البحثية العلمانية في الغرب، بعد أن تجاوز العالم مشكلة الإلحاد التي راجت زمناً في أواسط القرن العشرين. ولم يعد يُنظر اليوم إلى (الإلحاد) إلا باعتباره (موضة قديمة) تستدعي السُخرية!.
وبالطبع ثمة أسماء عديدة ناشطة في المجال البحثي ضمن النخبة العلمانية التونسية، إضافة إلى عشرات الصحفيين والسياسيين والحقوقيين الذين يتبنون موقفاً علمانياً جذرياً ورافضاً لأي مظهر من مظاهر التديّن في المجتمع.. حتى أن العديد منهم تقدم إلى الدولة التونسية بطلب تأسيس (جمعية اللائكيين العرب). إلا أن الموافقة بتأسيسها لم تصدر بعد. وربما هي أول مطالبة بتكوين جمعية تضم اللادينيين في العالم العربي.
المشكلة أن هذه النخبة رغم حديثها الدائم عن الاستنارة والحداثة والحرية البحثية. إلا أن بعض رموزها يمارسون دوراً إقصائياً تجاه المفكرين والباحثين المعتزين بهويتهم وتراثهم.. وقد حدثني اثنان من الأكاديميين المرموقين عن عدد من المُمارسات الإقصائية التي تجري في المراكز البحثية والجامعة التونسية، وكيف يتم تأخير اعتماد الدرجات العلمية والترقيات الوظيفية لمن هم خارج إطار هذه النُخبة العلمانية.
*    *    *    *
ومقابل هذه النُخبة العلمانية في تونس، ثمة نُخبة ثقافية وأكاديمية لها حضورها الواسع أيضاً، هي متصالحة مع تراثها وهويتها، ولا تجد تعارضاً بين الإسلام والحداثة، ودخل بعض شخصياتها في سجال ـ وربما صراع ـ مع النخبة العلمانية التي تُهيمن على المفاصل الثقافية والبحثية في تونس.
وفي مقدمة هذه الشخصيات الدكتور محمد الطالبي، الذي يُعد أستاذاً لجيل من المثقفين والأكاديميين في تونس، ومن مؤسسي الجامعة التونسية عام 1958م، وهو الآن في الثامنة والثمانين من عمره ـ من مواليد عام 1921م ـ وقد نال شهادة الدكتوراه في التاريخ من جامعة السوربون بباريس، وأصدر العديد من الكتب باللغتين العربية والفرنسية، من أهمها: (الإسلام حرية وحوار) الذي صدر بالفرنسية عام 1972م، وتُرجم إلى العربية عام 1999م، و(عيال الله) وصدر عام 1992م، و(مرافعة من أجل إسلام معاصر) عام 1998م، و(كونية القرآن) عام 2002م، و(ليطمئن قلبي) عام 2007م، و(أفكار مسلم معاصر) وهو الجزء الثاني من كتاب ليطمئن قلبي وصدر عام 2008م، إضافة إلى عدد من الكتب والبحوث في التاريخ الأفريقي.
أبو يعرب المرزوقي
وربما كان كتاب (ليطمئن قلبي) الذي صدر عن دار (سراس) التونسية في العام 2007م من أكثر الكتب التي أثارت جدلاً واسعاً في الوسط الثقافي التونسي والعربي. وذلك لأن الطالبي شن في كتابه هجوماً عنيفاً على المفكرين العلمانيين الذين وصفهم بـ (الانسلاخسلامية)، ويقصد بهذا الاصطلاح من يعتبرهم قد انسلخوا من هويتهم الإسلامية، وباتوا يهدفون إلى تقويض الإسلام تحت مصطلحات التأويل والقراءات الجديدة للنص وسوى ذلك.. وقد خصص الطالبي قُرابة الخمسين صفحة من كتابه للحديث عن الدكتور عبدالمجيد الشرفي ـ ويُعد أحد طلابه، حيث أشرف الطالبي على رسالة الشرفي للدكتوراه ـ، الذي اعتبره أحد رواد (الانسلاخسلامية)، واتهمه بأنه يهدف إلى نزع القداسة عن القرآن، وجعل الإسلام مجرد هوية تاريخية، وأنه يريد أن يكون (نيتشة) العرب، مستلهماً النظريات النيتشوية في موت الإله والإنسان المتجاوز للحدود، بل ووصف الشرفي بأوصاف رأى البعض أنها خارجة عن إطار التقييم العلمي، كاتهامه بالخداع والتمويه والكذب والنفاق والمداهنة، وسوى ذلك من أوصاف تدخل في إطار الشتائم.
من يقرأ كتاب الطالبي يلمس في ثناياه إيماناً عميقاً، وعاطفة طاغية أرادت أن تكشف كثيراً من الممارسات التقويضية للإسلام، التي تتم تحت لافتات البحث الأكاديمي والحرية العلمية.. وهذه الممارسات التي تحدث عنها الطالبي، هي أمر واقع ملموس، خصوصاً في الأوساط الأكاديمية والبحثية في تونس. ولكنه أيضاً مبحث شديد الحساسية، لأنه يتداخل مع جوانب غيبية لا يمكن الكشف عنها والتأكد من صحتها، كالحديث عن (النيات) التي لا يعرفها إلا الله وحده.. وهو ما أخذه على الطالبي حتى بعض المفكرين الإسلاميين في تونس، من أمثال د.احميده النيفر الأستاذ بجامعة الزيتونة، الذي كتب مقالاً طويلاً تحدث فيه عن كتاب الطالبي، ورأى فيه إيغالاً في الحديث عن النوايا، وأن ذلك غير سائغ في البحث العلمي، وإن كان د.النيفر قد تفهم في موضع آخر من مقاله كلام الطالبي، حين اعتبره في سياق (رد فعل) على العنف النقدي للإسلام الذي يصدر عن بعض الباحثين التونسيين.
أما في الجانب العلماني، فقد توالت الردود على كتاب الطالبي، فمنهم من اعتبره نموذجاً إضافياً للرِدة الثقافية التي أصابت من قبل خالد محمد خالد ومحمد عمارة ومصطفى محمود وسواهم ممن تحول من الماركسية إلى الإسلامية، ومنهم من اعتبره مجرد (بيان أخير) نازعاً منه صفة العلمية، وأنه مجرد حالة توبة دينية قبل الموت. أما الدكتور عبدالمجيد الشرفي فقد رد بمقال طويل بعنوان (الحق أحق أن يتبع)، ولمز فيه الطالبي بأن أعراض الشيخوخة قد أصابته.. وبالطبع تزعم موقع (الأوان) التابع لرابطة العقلانيين العرب نشر عدد من الردود على كتاب الطالبي.
وإذا أردنا الحديث عن النخبة الثقافية التونسية المتصالحة مع هويتها، فلابد ابتداءً من ذكر أستاذ الفلسفة في الجامعة التونسية الدكتور أبو يعرب المرزوقي، الذي يُعد اليوم من أبرز المفكرين الإسلاميين المشتغلين بحقلي الفلسفة والتراث الإسلامي، وممن يملكون اطلاعاً مذهلاً على مدارس الفلسفة وتاريخها وأفكارها وتحولاتها ومنظّريها، إضافة لاطلاعه الواسع على التراث الإسلامي بفِرقه ومذاهبه ومدارسه الكلامية، واعتنائه الشديد بتراث ابن تيمية.. وللمرزوقي عشرات الكتب والدراسات والبحوث والمقالات المطوّلة. ومن أهم كتبه: (الاجتماع النظري الخلدوني والتاريخ العربي المعاصر) عام 1983م، و(إصلاح العقل في الفلسفة العربية: من واقعية أرسطو وأفلاطون إلى إسمية ابن تيمية وابن خلدون) عام 1994م، و(آفاق النهضة العربية ومستقبل الإنسان في مهب العولمة) عام 1999م، و(تجليات الفلسفة العربية) عام 2001م، و(مصادر الفلسفة) عام 2005م، و(الثورة القرآنية وأزمة التعليم الديني) عام 2008م، والعديد من الكتب الأخرى.
ويعد الدكتور أبو يعرب المرزوقي من أبرز الناشطين في مجال التأليف والكتابة في الوسط الثقافي التونسي، وقد دخل في سجالات عديدة مع النخبة العلمانية التونسية والعربية، وكان ممن ردوا على مقال عبدالمجيد الشرفي (الحق أحق أن يُتبع) الذي كتبه رداً على الطالبي، حيث كتب د.المرزوقي مقالاً طويلاً بعنوان (نعم: الحق أحق أن يُتبع)، وتضمن دفاعاً عن مواقف الطالبي ورداً تفصيلياً على كلام الشرفي.. وأيضاً دخل في سجال مطول مع د.محمد المزوغي، الذي وصف أبو يعرب بأنه من (دعاة الوهابية) بسبب إشادته بنموذج ابن تيمية.. بل وللدكتور أبو يعرب المرزوقي تاريخ يمتد لعقود من الزمن في تبني الدفاع عن الهوية الإسلامية بمواجهة النخبة العلمانية التونسية. وربما كان يقف وحيداً على أرض هذه المعركة الثقافية في ثمانينيات القرن العشرين، التي كان فيها الدفاع عن الهوية والتراث موضع سخرية في الأوساط الثقافية التونسية.
أيضاً يمكن أن نذكر من ضمن النخبة الثقافية المتصالحة مع الهوية في تونس، الدكتور احميده النيفر الأستاذ بجامعة الزيتونة، وهو من الشخصيات البارزة في الحركة الإسلامية التونسية، ومن مجموعة (الإسلاميين التقدميين) التي تشكلت في بداية الثمانينيات، وقد درس الشريعة في الأزهر، وأكمل دراساته العليا في الجامعة الزيتونية، وقد أصدر العديد من الكتب، من أهمها: (الإنسان والقرآن وجها لوجه: التفاسير القرآنية المعاصرة) عام 2000م، و(النص الديني والتراث الإسلامي) عام 2004م.. وأيضاً الأستاذ صلاح الدين الجورشي رفيق درب د.احميده النيفر في تجربته الإسلامية وفي تأسيس مجموعة (الإسلاميين التقدميين)، ويُعد الجورشي من المثقفين والكتاب المعروفين في تونس والعالم العربي، وهو رئيس منتدى الجاحظ الثقافي، ونائب رئيس الرابطة التونسية لحقوق الإنسان.. وكذلك الدكتور محمد بوهلال الأستاذ في جامعة سوسة، الذي يُعد من أبرز المشتغلين بالفلسفة بتونس، وقد أصدر جزءاً من رسالته للدكتوراه بكتاب عنوانه (الغيب والشهادة في فكر الغزالي) عام 2003م. وله أيضاً كتاب (إسلام المتكلمين) من سلسلة (إسلام واحد ومتعدد) التي يشرف عليها د.عبدالمجيد الشرفي.. ونذكر أيضاً الدكتور محمد الرحموني الأستاذ في الجامعة التونسية، الذي أصدر عدداً من الكتب والدراسات، من أهمها: كتاب (الجهاد من الهجرة إلى الدعوة إلى الدولة) عام 2002م، و(الدين والأيديولوجيا / جدلية الديني والسياسي في الإسلام وفي الماركسية) عام 2005م.
وربما من أهم الشخصيات في هذا الإطار الدكتور عبدالسلام المسدي الذي يُعد من رجالات الدولة في تونس، حيث شغل منصبي وزير الثقافة ووزير التعليم العالي في فترتين متعاقبتين. وفي نفس الوقت يُعد هو من أبرز المثقفين في تونس، وأصدر عشرات الكتب والدراسات والبحوث، من أهمها: كتاب (أهم قضايا التفكير اللغوي عند العرب إلى ابن خلدون) عام 1979م، وكتاباه (مراجع اللسانيات) و(مراجع النقد الحديث) الصادران عام 1989م، و(العولمة والعولمة المضادة) عام 1998م، وسواها.. وكذلك المؤرخ والباحث المعروف الدكتور هشام جعيط ـ الذي اتُهم أيضاً بأنه من دعاة الوهابية ـ صاحب عدد من الكتب الرصينة التي حظيت بقدر واسع من الرواج في الأوساط الثقافية العربية، من مثل: (أوروبا والإسلام: صدام الثّقافة والحداثة) عام 1978م، و(الكوفة: نشأة المدينة العربية الإسلامية) عام 1986م، و(الفتنة: جدليّة الدّين والسّياسة في الإسلام المبكّر) عام 1989م، و(أزمة الثقافة الإسلامية) عام 2001م، إضافة إلى كتابين أصدرهما في السيرة النبوية.. ويدخل أيضاً في هذا الإطار العديد من الشخصيات الثقافية والأكاديمية في تونس.
كما لا يمكن أن ننسى في هذا الإطار بعض الشخصيات التونسية الناشطة في المجال الفكري، وتقيم خارج تونس لأسباب سياسية، وعلى رأسهم راشد الغنوشي زعيم حزب النهضة، الذي أصدر عدداً من الكتب والدراسات، ربما من أهمها كتاب (الحريات العامة في الدولة الإسلامية) الذي صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية في العام 1993م، وكتاب (مقاربات في العلمانية والمجتمع المدني) عام 1999م، وكتاب (القدر عند ابن تيمية) عام 1999م، وكتاب (الحركة الإسلامية ومسألة التغيير) عام 2002م، وسواهم.. وأيضاً الدكتور عبدالمجيد النجار، وهو من قيادات حزب النهضة، ويشغل منصب الأمين العام المساعد للمجلس الأوروبي للإفتاء الذي يرأسه الشيخ يوسف القرضاوي، وقد صدرت له عدة كتب، من أهمها (خلافة الإنسان بين الوحي والعقل) عام 1987م، و(دور حرية الرأي في الوحدة الفكرية بين المسلمين) عام 1992م، و(الشهود الحضاري للأمة الإسلامية / ثلاثة مجلدات) عام 1999م. وسواها.

ليست هناك تعليقات:

تخيل.. حقن الخلايا المناعية يعزز التئام العظام والعضلات والجلد

  "حقن الخلايا التنظيمية التائية أو الخلايا التنظيمية، التي تتحكم في الاستجابات المناعية للجسم، مباشرة في العظام التالفة والعضلات والجل...