المحكمة الأوروبيةلحقوق الإنسان الأروبي لن تدين فرنسا في العملية "سيرلي" التي شاركت فيها باريس لتصفية مدنيين بمصر رغم قبول نظر القضية شكلا
لتسريبات الفرنسية.. ما قصة العملية "سيرلي" التي شاركت فيها باريس لتصفية مدنيين بمصر؟
فضيحة عسكرية كبيرة، تلك التي كشف عنها موقع "ديسكلوز" المتخصص في التحقيقات الصحافية الطويلة في تحقيقه الأخير الذي يتناول مشاركة قوات فرنسية في عمليات استخباراتية عسكرية لصالح الجيش المصري استهدفت المئات من المدنيين من مُهرِّبين وغيرهم في المنطقة الحدودية الفاصلة بين مصر وليبيا. (1) وقد ألقى التحقيق الضوء أيضا على اتفاقيات عسكرية سرية بين الإيليزيه من جهة، سواء في عهد فرانسوا هولاند أو إيمانويل ماكرون، وبين الحكومة في مصر، التي تحوَّلت إلى أحد أهم مشتري الصناعة العسكرية الفرنسية في الأعوام الأخيرة.
سيرلي.. عملية استخباراتية سرية
في يوم 13 فبراير/شباط 2016، كانت القاعدة العسكرية بمرسى مطروح في انتظار مجموعة عسكرية مهمة، إذ وصلت شاحنة إلى المنطقة التي تبعد نحو 570 كيلومترا عن العاصمة القاهرة، حاملة 10 فرنسيين دخلوا إلى البلاد بتأشيرات سياحية. نزل الفريق الفرنسي في مبنى بدائي يفتقد للخدمات الأساسية كالماء أو مكيفات الهواء، وهو مبنى سيكون بدءا من تلك اللحظة مركزا لعمليات عسكرية فرنسية سرية بمصر أُطلق عليها اسم "سيرلي". (2)
بدأت اللبنات الأولى لهذه العملية العسكرية يوم 25 يوليو/تموز 2015، عندما زار "جون إيف لو دريان"، وزير الدفاع الفرنسي السابق ووزير الخارجية الفرنسي الحالي، العاصمة المصرية القاهرة بصحبة الجنرال "كريستوف غومار"، مدير المخابرات العسكرية الفرنسية السابق، للقاء "صدقي صبحي"، وزير الدفاع المصري وقتها. كانت الأجواء إيجابية للغاية، والسبب في ذلك هو صفقات التسليح التي عقدتها القاهرة قبلا مع باريس، حيث وصلت قيمتها إلى 5.6 مليارات يورو مقابل اقتناء 24 طائرة رافال وسفينتين حربيتين.
استغل الجانب المصري حماس الفرنسيين لتوطيد علاقتهم العسكرية مع القاهرة ونيل المزيد من عقود الأسلحة المربحة، وطلب مساعدة من باريس من أجل تأمين 1200 كيلومتر من الحدود المصرية الليبية، وقد وافق الفرنسيون من فورهم وأكَّدوا بدء العمل على خطة عسكرية سرية في إطار "الحرب على الإرهاب" تُشرف عليها الاستخبارات العسكرية الفرنسية إشرافا مباشرا، ثمَّ وقَّع الطرفان اتفاقا بذلك وضع الأُطر العامة لهذه العملية وأهدافها وحدودها.
بعد أشهر قليلة من هذا الاتفاق، وصل إلى مصر فريق فرنسي من 4 أفراد بالجيش الفرنسي، و6 جنود سابقين يعملون حاليا في "القطاع العسكري الخاص" بعد وصولهم إلى سن التقاعد، إلى جانب طيارين اثنين، و4 محللين عسكريين يعملون لدى شركة "CAE Aviation" وهي شركة مسجلة في لوكسمبورغ. ولم تشارك الشركة في العمليات عبر هؤلاء الأفراد فحسب، بل كانت وراء تزويد فرنسا بالقطعة الأهم في هذه العملية، طائرة مراقبة خفيفة من طراز "مِرلين 3" (Merlin 3)، التي كلَّفت الفرنسيين نحو 1.45 مليون يورو، واستُخدمت بكثافة ما بين يوليو/تموز وديسمبر/كانون الأول 2016.
استهداف المهرِّبين
على الورق، كان الهدف من العملية هو مساعدة القاهرة على تأمين حدودها الغربية مع ليبيا، التي عانت آنذاك اشتداد القتال الأهلي الذي شارك فيه عدد من التنظيمات الجهادية على رأسها تنظيم الدولة الإسلامية "داعش". ولكن بعد مدة قصيرة من انطلاق العمليات، أظهر الجانب المصري اهتماما أكبر بهدف آخر بعيد عن التنظيمات المسلحة، وهُم المهرِّبون من المدنيين.
يقول تحقيق ديسكلوز إن بعد شهرين فقط من بدء عملية "سيرلي"، توصَّلت إدارة الاستخبارات العسكرية الفرنسية من خلال تقرير أصدره ضابط فرنسي بتاريخ 20 إبريل/نيسان 2016 إلى أن الجانب المصري أراد تنفيذ عمليات مباشرة ضد المهرِّبين، وأنه لا توجد أي رغبة حقيقية لديه في استغلال عمليات المسح التي قامت بها طائرة المراقبة في البحث عن عناصر إرهابية بالفعل. تكرَّر الأمر نفسه بعد 4 أشهر من التقرير الأول، إذ صدر تقرير جديد مفاده أن النظام المصري استهدف المُهرِّبين لا الإرهابيين وأنه يُصِرُّ على ذلك، وهؤلاء المُهرِّبون هم شباب تتراوح أعمارهم ما بين 18-30 سنة يُهرِّبون المخدرات والأسلحة أحيانا، ويُهرِّبون الحبوب كالقمح والأرز ومساحيق التجميل في أحيان أخرى بهدف البحث عن لقمة العيش.
يزعم الموقع الفرنسي أن 50% من السكان في مرسى مطروح يعيشون من قوت "التهريب"، إذ يتلقى المُهرِّب على حافلة تهريب السجائر مثلا نحو 3800 يورو، في حين لا يتعدى الدخل اليومي للعمال في حقول الزيتون أو في جني التمور ما يُكافئ 6 يورو فقط بالعُملة المحلية. بيد أن عملية التهريب تظل خطيرة للغاية، إذ أعلنت الرئاسة المصرية في يوليو/تموز 2020 تدمير 10 آلاف عربة لمُهرِّبين وإرهابيين على مدار 7 سنوات، ما يعني مقتل آلاف من المدنيين. (3) وقد زاد ضيق عملاء الاستخبارات الفرنسية بعد أن تأكَّدوا أن عملهم في مصر ليس ذا جدوى كبيرة، إذ يرفض النظام المصري اقتراب طائرة المراقبة الفرنسية من منطقة سيناء أو الداخل الليبي، حيث ينشط عدد من التنظيمات الجهادية، بل يكتفي باستهداف المُهرِّبين على الحدود ليس إلا.
وفي يوم 21 سبتمبر/أيلول 2016، رصدت طائرة التجسس الفرنسية إحداثيات سيارات تسير وسط الكثبان الرملية، بعدها تواصلت الطائرة مع مركز العمليات الفرنسي على الأرض الذي من جهته نقل الإحداثيات إلى غرفة عمليات الجيش المصري. وفي غضون دقائق، التقطت كاميرات المراقبة استهداف طائرة خاصة بالجيش المصري لهذه السيارات التي كانت تقل عددا من المُهرِّبين. كانت هذه العملية واحدة من بين 19 عملية شاركت فيها فرنسا بمعلوماتها الاستخباراتية في استهداف عدد من المدنيين حسب ما نشر التحقيق، وبعد أيام أعلنت وزارة الدفاع المصرية في بلاغ لها عن تدمير 8 عربات لمُهرِّبين محتملين تدميرا كليا.
ماكرون يجدِّد العملية
بعد وصوله إلى رئاسة فرنسا، أكَّد ماكرون في خطاب له يوم 7 مايو/أيار 2017 أن أوروبا والعالم ينتظرون من بلاده الدفاع عن "الأنوار المهددة" في عدد من الأماكن، والدفاع عن الحريات ونصرة المظلومين. وبعد هذا الخطاب بثلاثة أسابيع، أجرى ماكرون اتصالا هاتفيا مع نظيره المصري عبد الفتاح السيسي بُعيد حادثة استهداف مواطنين مصريين مسيحيين من طرف داعش. (4) لم يتطرَّق الرجلان لهذه الحادثة فقط، بل ركَّزا أيضا على العمليات الدائرة على الحدود مع ليبيا، حيث أكَّد الرئيس الفرنسي لنظيره المصري أن لديه جميع المعلومات حول هذه العمليات وتطوراتها.
في غضون ساعات بعد هذا الاتصال، حصل "بيير دو فيليي"، قائد أركان الجيش الفرنسي، على رسالة من الجنرال "كريستوف غومار"، مدير الاستخبارات العسكرية الفرنسية السابق، أكَّد فيها أن السيارات التي استُهدفت في سبتمبر/أيلول لم تكن تابعة لأي تنظيم إرهابي، مُضيفا في الرسالة نفسها: "الحرب على الإرهاب ليست على رأس أولويات المصريين، بل تأتي في المركز الثالث". (5)
بيد أن أيًّا من هذه التقارير لم يؤثر على سير العمليات، إذ زارت "سيلفي غولار"، وزيرة الدفاع الفرنسية السابقة، مصر في السادس من يونيو/حزيران 2017 للقاء الرئيس المصري، وأكَّدت له استعداد ماكرون رفع معدل العمليات، لا سيما أنها تساعد على الوصول إلى نتائج وصفها الرئيس الفرنسي بالممتازة والاستثنائية. بعد هذه الزيارة جاء الدور على "جون إيف لو دريان"، وزير الدفاع الفرنسي السابق الذي كان قد عُيِّن لتوه وزيرا للخارجية، وقد أتى الرجل للقاء صدقي صبحي، وناقش الطرفان خلال اجتماعهما الشق السري للعملية العسكرية "سيرلي"، وبعدها استمرت طائرات الجيش المصري في استهداف السيارات التي تحرَّكت في المنطقة، وكان من بين الضحايا هذه المرة مهندس مصري يُدعى "أحمد الفقي" واثنان من زملائه كانوا يعملون على تعبيد طريق بالقُرب من واحة بحرية، إذ ضربت طائرة مصرية شاحناتهم الصغيرة فقتلت ثلاثتهم.
لم تتغيِّر رغبة باريس والقاهرة في مواصلة التحركات العسكرية بالمنطقة، وقبيل زيارة الرئيس الفرنسي للقاهرة مطلع العام 2019 برفقة وزيرة دفاعه الجديدة "فلورانس بارلي"، حصل ماكرون على تقرير من الجهة المسؤولة عن الشؤون الأفريقية بالإليزيه يوصيه بتوقيع اتفاق قانوني يحمي التدخُّل الفرنسي، لكن ساكن الإليزيه لم يُعِر هذه التوصيات أي اهتمام، بل منح السيسي وسام جوقة الشرف، وهو أرفع وسام فرنسي، يوم 5 ديسمبر/كانون الأول 2020، وذلك بعد أن وقَّع الطرفان قبل 4 أشهر صفقة تسليح وصلت قيمتها إلى 3.6 مليون يورو مقابل 30 طائرة رافال.
برود إعلامي فرنسي وفتح تحقيقات
تناولت وسائل الإعلام الفرنسية هذا التحقيق بنوع من البرود، وباستثناء منابر إعلامية محدودة، لم تُثر أخبار عملية "سيرلي" شهية هيئات التحرير الفرنسية في المواقع والجرائد والقنوات التلفزيونية. وعلى الرغم من ذلك، أكَّدت وزيرة الدفاع "فلورانس بارلي"، فتح تحقيق داخلي بهدف البحث عن مدى صحة "استعمال المصريين للمعلومات الاستخباراتية" لاستهداف مدنيين بدلا من الجهاديين كما نص على ذلك اتفاق 2016 السري. (6)
وقد أشارت الوزيرة الفرنسية في السياق نفسه إلى أن مصر شريك في تبادل المعلومات الاستخباراتية بهدف محاربة الإرهاب من أجل حماية المنطقة وحماية الفرنسيين. ورفضت بارلي إعطاء تفاصيل أكثر حول هذا التعاون العسكري على اعتبار أنه شديد السرية، لكنها أكَّدت أن وزارتها ستأخذ على محمل الجد المعلومات التي نُشرت حول هذه العملية في وسائل الإعلام.
أما على الصعيد السياسي، فقد دعا حزب "فرنسا الأبية" اليساري المتطرف إلى فتح تحقيق داخل البرلمان الفرنسي داعيا كلًّا من جون إيف لودريان وإيمانويل ماكرون وفرانسوا هولاند ووزراء الدفاع الآخرين إلى المثول أمام البرلمان من أجل تقديم توضيحات أكثر حول عملية "سيرلي". (7)
ومن جهته صرَّح موقع "ديسكلوز" في بلاغ نشره بعد هذا التحقيق أن الدافع الحقيقي وراء إخراج هذه المعلومات إلى النور قانوني في المقام الأول ويمس طبيعة هذه العمليات العسكرية، إلى جانب حقيقة أن تمويل هذه العمليات يأتي من ميزانية وزارة الدفاع، ما يعني ضرورة كشف جميع المعلومات المتاحة حول "سيرلي" للنواب البرلمانيين بوصفهم ممثلين للشعب الفرنسي. هذا ويُنتظر أن يكشف الموقع عن معلومات ووثائق أخرى في الأيام القليلة القادمة. (8) من جهتها لم تُعلِّق مصر رسميا حتى الآن على ما تداولته وسائل الإعلام الفرنسية، بل اكتفت بأن أضافت موقع "ديسكلوز" إلى قائمة مواقعها المحظور دخولها عبر الإنترنت داخل مصر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق