الخميس، ديسمبر 09، 2010


بعد ثلاث سنوات على احتراقه للمرة الثانية : مصر في انتظار افتتاح جديد لمبنى الأوبرا الخديوية 


أعلنت وزارة الثقافة أن العد التنازلي للانتهاء من بناء وترميم دار الأوبرا القديمة ('المسرح القومي'حاليا)، قد بدأ فعلا. ويستطيع المارة في ميدان العتبة مشاهدة ارتفاع الأبنية الجديدة بصورة متسارعة، بعد أن تعرض المسرح لحريق مدمر قبل حوالي عامين ولم تنشر أية تقارير جازمة حول أسباب اندلاع مثل هذا الحريق.
وكانت وزارة الثقافة قد تعرضت لانتقادات واسعة جراء الإهمال الشديد الذي تعرض له المبنى في السنوات الأخيرة، لا سيما وأن ثمة شبهات حامت حول أن السبب المباشر في هذا الحريق المروع هو أنابيب الغاز التي كان يحتفظ بها باعة جوّالون اعتادوا ترك متاعهم داخل الأسوار. والمقارن بين ماضي الأوبرا وحاضرها يكشف عن التردي الشديد الذي آل إليه حال مصر على كل المستويات، فقد كان هذا المبنى العريق واحدا من التحف المعمارية النادرة على المستوى العالمي قبل ما يقرب من قرن ونصف القرن.
ففي الأول من تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 1869، كان الخديوي اسماعيل يعد لاستقبال ملوك أوروبا ورؤسائها الذين وجهت إليهم الدعوة لحضور افتتاح دار الأوبرا الخديوية وكان بين هؤلاء بالطبع الإمبراطورة أوجيني زوجة الإمبراطور نابليون الثالث، وكذلك ولي عهد روسيا، والإمبراطور فرانسوا جوزيف عاهل النمسا. كان ذلك في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) قبل ما يناهز قرنا ونصف القرن، عندما كان تطلع الخديوي إسماعيل كبيرا نحو الانتقال بمصر من وضعيتها المنكمشة تحت ظلال ثقيلة للامبراطورية العثمانية إلى مكان تتوسط فيه عقد العالم، ليس بموقعها الجغرافي فحسب، ولكن بطموحها نحو المستقبل، لذلك كان هذا الولع وراء تفكير الخديوي في تشييد دار الأوبرا الخديوية عام 1869، حيث كـُلـّف المهندسان الايطاليان أفوسكاني وروسي بوضع تصميم للأوبرا، وانشائها في مكان يتوسط اثنين من أهم أحياء القاهرة في ذلك الحين هما في الأزبكية وفي الاسماعيلية.
وقد روعي في بنائها أحدث النظريات الصوتية والبصرية آنذاك، وبنيت بأيد مصرية في ستة أشهر وارتبط ذلك بافتتاح قناة السويس، حيث أنشئت بأسرع ما يمكن لتلحق باحتفالات الأول من تشرين الثاني (نوفمبر). وقد بنيت الأوبرا من خشب الأرز المستورد من لبنان، كما استخدم الكرتون والجبس المفرغ في صنع الزخارف التي كان أغلبها يمثل نقوشا وتماثيل للملائكة، وقد أحيطت بالروعة والفن في كل أرجائها مما يأخذ باللب، وقد شارك عدد كبير من المصورين والمثالين في تزيين الدار وتجميلها برسومات وصور لكبار الفنانين من الموسيقيين والشعراء ليشع الفن في أرجــائها حتى أصبحت في أجمل صورة.
وكان الخديوي اسماعيل يأمل أن تقدم 'أوبرا عايدة'في حفل الافتتاح والتي كلف فيردي بتأليفها حيث نال على عمله مئة وخمسين ألف فرنك من الذهب دفعها لتصبح هذه الأوبرا العظيمة ملكا للدار المصرية، وقد كتب قصتها عالم الآثار الفرنسي الشهير مارييت، الا أن الظروف شاءت أن تتأخر عامين حيث لم يكن قد تم الحصول على بعض الديكورات والملابس التي صنعت في مدينة باريس نظرا للحصار الذي ضربته القوات الروسية على العاصمة الفرنسية مما اضطر الخديوي الى تقديم 'أوبرا ريجوليتو'في حفل الافتتاح بدلا من أوبرا عايدة التي قدمت في 24 كانون الاول (ديسمبر) عام 1871 ومن الجدير بالذكر أن 'أوبرا ريجوليتو'أيضا من وضع الموسيقار فيردي.
وقد كان المسرح يتسع لـ 850 شخصا، وخصصت قاعة للتدخين لأول مرة في مصر.
وقد أقيم خلف المسرح بناء من ثلاثة طوابق: الأول توجد به مقاصير لتغيير الملابس والطابق الثاني المواجه للمسرح لتخزين المناظر في مخزن فسيح بشكل يتيح خروج الديكور ودخوله وتصنيفه، أما الطابق الثالث فقد قسم الى حجرات وأبهاء أعدت لحفظ الملابس والأثاث وفي هذا الطابق وحده ثروة فنية تضاهي ما يوجد بالمتاحف المصرية، فقد كان يضم الملابس التاريخية التي صنعها أمهر الصناع، حيث وشيت بالزخارف ونفذت من خلال دراسة الوثائق والتاريخ وكذلك الحُليّ المتقنة العالية التقنية، وأيضا الأثاث الدقيق الصنع الذي يتماشى مع تطور الفنون والعصور المختلفة، وأخيرا الدروع والخوذات والسيوف التي نفذت بأيدي أمهر الفنانين.
وقد اشتملت الدار على ورشة للنجارة لصنع الجديد واصلاح ما يتطلب اصلاحه وورشة للحياكة لاعداد ملابس الروايات الجديدة.
وقد انتعشت الفنون في مصر وشاع الاهتمام بها وخاصة الموسيقى والأوبرا، فأنشئت المعاهد، مثل معهد الموسيقى العربية، وأقيمت المسارح مثل مسرح الكورسال، وكان من أعلام الفن الذين أثروا مواسم الأوبرا بروائع المسرح الدرامي العملاقة جورج أبيض وسلامة حجازي ومنيرة المهدية، وقد نقلوا الأوبرات العالمية للغة العربية، بل وضعوا لها الألحان المصرية أيضا.
وقد توالت الأحداث والعروض الناجحة على الدار عاما بعد عام، في البداية للرواد الأوروبيين ثم للفنانين المصريين، حتى احتلت الأوبرا ركنا مهما بارزا في العالم كله، وظهرت الكثير من المواهب في شتى المجالات من عزف وغناء وتأليف موسيقي، فظهرت روائع الأوركسترا السيمفونية، وفرقة أوبرا القاهرة، وفرقة باليه أوبرا القاهرة، وكان تأثير الأوبرا على الفن المصري تأثيرا شاملا في جميع نواحيه فظهرت الفنون المسرحية كالمسرح القومي والكوميدي والحكيم وكان الفنان سلامة حجازي أول من فكر في نقل قصص الأوبرا الايطالية للغة العربية، كما ظهرت فرقة الفنون الشعبية لتسجل انعكاسات الشعب المصري من تقاليد وعادات وكانت أولها فرقة رضا ثم تلتها الفرقة القومية. ووصل التطور الى أرقى درجاته حين تكونت فرقة الباليه والأوبرا والكورال والفرقة الموسيقية مثل أوركسترا القاهرة السيمفوني وفرقة الموسيقى العربية، قد استلزم هذا التطور الفني الكبير في مصر انشاء معاهد متخصصة للفنون كمعهد الباليه ومعهد السينما والكونسرفتوار. وقد شهدت دار الأوبرا عصور التطور في الابداع وارتقائه مما جعل من عروضـــها سجلا بارز المعالم في تاريخ فن الأوبرا والتـراث الموسيقي والمسرحي.
وفي قمة هذا النجاح وبالتحديد يوم 28 تشرين الاول (أكتوبر) عام 1971 احترقت دار الأوبرا وسط ذهول وحزن المصريين، وكان الحريق ناتجاً عن ماس كهربي مما أدى إلى اشتعال الدار بشكل سريع ولم تستطع مراكز الاطفاء انقاذها من براثن الحريق.
كان أول مدير لدار الأوبرا الملكية هو اليوناني دارنيت بك وتولاها في 18 آذار (مارس) 1861 خلال حكم الخديوي اسماعيل ثم تلاه بسشكوالي كلمنته من 1886 حتى 1910، ثم جنارو فورنايو من 1911 حتى 1931، ثم فورتانوتو كانتوني من 1933 حتى 1938، ثم الفنان سليمان نجيب من عام 1938 حتى عام 1953، ثم الشاعر عبدالرحمن صدقي من 1954 حتى 1956، ثم محمود النحاس من عام 1956 حتى 1962، ثم الفنان التشكيلي صلاح طاهر من عام 1962 حتى 1966، وأخيرا صالح عبدون من عام 1966 حتى 1971، أي حتى تاريخ احتراقها.
غير أنه بعد احتراق الأوبرا تطلعت مصر لانشاء أوبرا جديدة وكان لها ذلك بعد المنحة اليابانية التي قدمتها الحكومة اليابانية لانشاء الأوبرا الجديدة في منطقة أرض الجزيرة بين فرعي النيل وسط القاهرة، وقد قامت على التنفيذ شركة جايكا اليابانية وبدأت أعمالها بالفعل في آب (أغسطس) عام 1983 بالالتقاء مع مسؤولي وزارة الثقافة وتم تكوين مجموعة عمل مصرية قامت باجراء بعض التعديلات على التصميم وشكل المبنى ليتناغم مع الأبنية الثقافية الموجودة في حرم الأوبرا ولتوسيع رقعة القاعة الكبرى التي يبلغ عدد مقاعدها 1300 مقعد والقاعة الصغرى 500 مقعد والمسرح المكشوف 800 مقعد وقاعة المعارض الخاصة بالفنون التشكيلية والمتحف وملاحق الخدمة كغرف التدريبات وغرف الفنانين والمطعم والكافيتريا. وقد خصص ما يقرب من ستة بلايين ونصف بليون ين ياباني لهذا الحدث، ويجاور مبنى الأوبرا متحف الفن الحديث ومبنى القبة السماوية ومبنى قصر الفنون والمجلس الأعلى للثقافة ومركز الهناجر للفنون وقطاع شـــؤون الانتاج الثقافي ومركز الابداع.
وقد استغرق بناء المركز الثقافي القومي دار الأوبرا المصرية ثلاثة أعوام وكلفت شركة كاجيما اليابانية بأعمال التشييد وانتهى العمل في 31 آذار(مارس) عام 1988 وتم افتتاحها رسميا في العاشر من تشرين الاول(أكتوبر) من العام نفسه.
وقد شهدت مسارح دار الأوبرا الجديدة العديد من العروض الواسعة في مختلف الفنون، فمنذ أن قدم على مسرحها الكبير في حفل الافتتاح عرض الكابوكي الياباني تقدمت الدار بخطوات ثابتة على مدى ستة عشر عاما لتكون لها فرقتها الخاصة حيث أصبح لها أوركسترا القاهرة السيمفونية وأوركسترا أوبرا القاهرة، وفرقة الموسيقى العربية والفرقة القومية العربية للموسيقى وفرقة باليه أوبرا القاهرة، وفرقة كورال أوبرا القاهرة وفرقة الرقص المسرحي الحديث المصري وفرقة كورال الأطفال وفرقة الموسيقى العربية للتراث.
وقد شمل النشاط استضافة الفرقة العالمية مثل باليه بيمار لوزان، الكوميدية الفرنسية مونشانز السويسري، باليه مت الأمريكي، باليه شتو تغارت الألماني، باليه البولشوي الروسي، والباليه الفرنسي، والشوبوت الأمريكي.
وفي مجال الأوبرات تمت استضافة أوبرا بكين وشنغهاي وتعاون فرقة أوبرا القاهرة مع مسرح مترو بوليتان بنيويورك في أوبرا كارمن وتوراندوث وسانتين بفرنسا لانتاج أوبرا عايدة وتاييس، وفي مجال الموسيقى الأوركسترالية قدمت الأوبرا أوركسترا بودابست السيمفونية المجر، أوركسترا فيينا، أوركسترا ماركو بولس اليونان، ومجموعة باريس الأوركسترالية في فرنسا، وقد أضيف لتبعية دار الأوبرا كل من مسرح الجمهورية ومعهد الموسيقى العربية الذي يحتوي على متحفين أحدهما لمقتنيات محمد عبدالوهاب، والآخر للآلات الموسيقية النادرة، بالاضافة للمسرح الروماني والتحفة المعمارية الرائعة، وهي مسرح سيد درويش دار أوبرا الاسكندرية، كما افتتحت المكتبة الموسيقية التي تحتوي على قاعة سمعية بصرية والعديد من الأوعية المعلوماتية لما قدم على المسارح المختلفة.
كما افتتحت العديد من قاعات العرض الخاصة بالفن التشكيلي مثل قاعة المكتبة الموسيقية وقاعة المترو التي تعد الأولى من نوعها في الشرق الأوسط وقاعة مسرح الجمهورية وكذلك القاعة المفتوحة.
تتبقى الاشارة الى ذلك الوضع النخبوي الذي يحيط دار الأوبرا المصرية بنشاطها الواسع، والذي سيكون الأعمق تأثيرا اذا ما انتبهت الادارة الى ضرورة تحقيق امتدادات عميقة لأنشطتها في أقاليم مصر، ولا يجب أن يقتصر الأمر على بعض الحفلات الموسمية المرتبطة بالاحتفالات الوطنية، فواقع الأقاليم في أمس الحاجة الى من يأخذ بيده، وطالما تناقش المحبون للفنون والموهوبون من أبناء الريف والمحافظات النائية حول من ينتبه الى مثل احتياجهم الانساني.

ليست هناك تعليقات:

ينتزع اللقب بفارق نقطتين عن أرسنال.في سبع سنوات أفوز بلقب الدوري الإنجليزي ست مرات

    أشاد جوسيب غوارديولا المدير الفني لمانشستر سيتي بإنجاز تتويج فريقه بلقب الدوري الإنكليزي لكرة القدم للمرة الرابعة على التوالي. وبات مانش...