أوجه الشخصية وشبهة الإصابة بالانفصام: عبد الناصر نموذجا
بِمُنَاسَبَة عِيْد الْجلوس على العرش ;دَعْوَة عَامَة لِعُمَّال مِصْر مَدْعُوّمِيْن بِإِخْوَانِهِم الْطَّلَبَة وَالْمُوَظَّفِيْن وَالْفَلَّاحِيّن وَالْعَاطِلِيْن وَالْبَائِسِيِن وَالْيَائِسِين وَالَّمْهُمَشِّين وَالْمَنَسِّيِّين وَالْبَرّادَّعْيِّين وَالْكِفَايِين وَالأبْريلِيِّين وَحَتَّى الْإِخْوَة الْمَسِيحِيِّيْن وَ...الْإِخْوَان المسلمين... ،للتَظَّاهِر فِي الْأَرْكَان الْأَرْبَع لِمِصْر،أُخْرِجُوْا ف كُل مَكَان،فِي الْقُرَى وَالْنُّجُوع وَالْمُدُن،إِقْطَعُوا الْطُّرُقَات،شِلْوَا حَرَكَة الْمُوَاصَلَات،زَّلْزَلُوْا الْأَرْض تَحْت أَقْدَام عِصَابَة مُبَارَك،لاتَخْشَوا غَيْر الْلَّه،فَلَن نَمُوْت مَرَّتَيْن،وَلَن يَأْخُذ الْرُّوْح غَيْر خَالِقُهَا،فَأَبَذَلُوْهَا فِي سَبِيِل الْلَّه وَالْوَطَن وَفِي سَبِيِل حُقُوْقُكُم الْمَنْهُوبَة،فَمَن مَات فِي سَبِيِل حَقَّه فَهُو شَهِيْد،وَالْلَّه عَلَى مَاأَقُوْل شَهِيْد٠أَخُوْكُم سَالِم الْقَطَّامِى
توقفت مليا أمام ما كتبت هويدا طه في ذكرى رحيل عبد الناصر الأربعين، وكان بعنوان 'النهضة بدون حرية فشل.. ناصر ياحبيب.. أنت السبب'.وكانت قد خلصت بنتيجة بعد اطلاعها على خطب ورسائل عبد الناصر منذ 1952؛ وهي أن عبد الناصر حمل شخصيتين وطبيعتين متناقضتين؛ فقالت: 'هناك جمالان وليس جمالا واحدا'. أحدهما يحمل صفات نبيلة وحميدة، وآخر عبر عنه نظام تولى 'البيع الغامض المتسلسل لمصر؛ أرضا وكرامة'. وبين جمال الشخص وجمال النظام تتجسد الخطيئة. فيصبح صانع الثورة هو نفسه صاحب الثورة المضادة!!. وعثرت هويدا طه على مفتاح هذه الشخصية المزدوجة في عبارة وردت في ثنايا رسالة منه لصديق وصف فيها الشعب بـ'كائنات لا تدري من أمر نفسها شيئا'. والخطيئة من وجهة نظرها جاءت من معالجته لإدراكه هذا. لكن العبارة أكدت ما استقر لديها في تفسيرها لأحوال مصر الراهنة. والمتابع لكتاباتها وآرائها يجد الفكرة الأساس التي تنطلق منها في تفسير ما آل إليه حال المصريين هو تدني الوعي. ويختلف معها كثيرون وأنا من بينهم. ولأنها جادة فيما تقول وتكتب، فإن الحوار الجاد والموضوعي معها؛ يفتح آفاقا رحبة أمام اللغة الجامعة، التي تحتاجها الجماعة الوطنية في ظرفها الراهن، فضلا عن أنه لا يفسد للود قضية.
هويدا طه من جيل ثمانينات القرن الماضي. تخرجت من كلية الهندسة في عام 1984. وكل جيل ابن ظروفه والمناخ الذي عاش فيه. وجيلها هو ما يمكن أن أطلق عليه جيل ما بعد الأفول.
تفتح وعيه على النكسة، ورغم معاصرته لنصر 1973 إلا أن ذلك النصر على غير المتوقع زاد من عمق ثقافة الهزيمة، وفيه صفيت منجزات الشعب وبدأ نهج الاستبداد والفساد والتبعية والإفقار يعتمد على ادعاء بالفصل بين استقامة عبد الناصر الشخصية وفساد مشروعه التحرري الاجتماعي الوحدوي. وعلى أنغامه خرجت أفاعي من جحورها؛ تتغنى بمآثر الرجل الشخصية، وتلعن ما قام به. يبدأون حديثهم بالإشادة بعظمته ويتوقفون أمام كلمة لو. وعلمنا فقهاء اللغة أن لو تفتح عمل الشيطان. وبدوا متسامحين وهم يغفرون له خطاياه بسبب إخلاصه!. وكأنهم يقدرون المخلصين!
كان المعنى واضحا فالتركيز على الفصل بين شخصيتين فيه، يعنى أنه غير سوي. ولا أعتقد أن هذا هو رأي الكاتبة لمعرفتي بها، إلا أن المشكلة كانت في الانطباع الذي خرج به البعض.
لنبدأ بالابتعاد قليلا عن مجالات الرأي والسياسة ونقترب من مجال علم النفس، فازدواج الشخصية مرض نفسي معروف بالانفصام أو الشيزوفرينيا. ويبتلى فيه المريض بشخصيتين متناقضتين؛ الواحدة نقيض الأخرى، وتتصرف بمعزل عنها، حتى لو أنك سألت المريض عن تصرفه لأنكره. وهذا يخرجه من دائرة الأسوياء. وتكون الحاجة هنا ماسة إلى محلل أو طبيب نفسي يتولى أمره، وغالبا ما يودع المريض في مصحة نفسية. وعبد الناصر الذي ملأ الدنيا وشغل الناس وما زال؛ لم يكن هكذا، فيتحمل مسؤولية تفجير الثورة ومسؤولية الانقلاب عليها وهدمها في نفس الوقت، وبذلك يُمنح كل من هدم وخرب وخان، وسفح دم الوطن وقتل الأمة صكا بالبراءة. ليس مثل عبد الناصر هو من ينظر للشعب هكذا حسب ما جاء في وصفه بأنه 'كائنات لا تدري من أمر نفسها شيئا'؟.
شخصية عبد الناصر لها أوجه عدة؛ لم يكن جمالا واحدا ولم يكن اثنين كما ذكرت الكاتبة، بل كان أكثر من ذلك. جمال الطفل.. الطالب.. الضابط.. الثائر.. المحارب.. الأسير.. السياسي.. الزعيم.. الحاكم.. رجل الدولة.. الزوج.. الأب.. الأخ.. الصديق.. الصحيح.. المريض.. الذكرى. كل هذا فيه؛ مثله مثل الذين يتنوعون وتتعدد جوانب شخصياتهم.. تضيق وتتسع حسب الوزن والدور والخصال والمهارات والإمكانيات والمواهب. لم يبق عبد الناصر هو نفسه من يوم ولدته أمه حتى رحيله. وقاعدة التعامل مع البشر تراعي هذه الاعتبارات.
وتأكيد السجايا الشخصية وسلخها عن الدور؛ يصبح كمن يمارس الرذيلة في بيت للفضيلة. هذا هو الانفصام بعينه. وبعيدا عن هذا المعنى لا يمكن الفصل بين عبد الناصر ومشروعه ونظامه. وإذا كانت للرجل كل تلك الفضائل التي اعترف بها الأعداء قبل الأصدقاء إذن فلنبحث سر ما وصلنا إليه. والسر ليس فيما استشهدت به الكاتبة، وقد قيل أكثر منه في كتاب 'فلسفة الثورة'؛ وفي نقده لسلوك بعض أبناء الطبقة الوسطى المصرية في طريقة تعليمهم لأولادهم وبناتهم؛ الموزعين بين تعليم انكليزي للذكور وتعليم فرنسي للإناث، بطريقة عزلتهم عن مجتمعهم ووضعت حاجزا بينهم وبين وطنهم. مؤكدا انحيازه للتعليم الوطني، وقال غيره فيما نقله عنه الكاتب الفرنسي جورج فوشيه في كتابه 'عبد الناصر وصحبه'، وهو يعرض لرسائله إلى صديقه، وكثيرا ما عبر فيها عن ضيقه بأحوال البلد وباستكانة الناس وضعف وعيهم، وكان ذلك حافزا على التحدي والوقوف في صف أولئك الذين غضب منهم. أنصفهم وضحى من أجلهم، وعوضهم كثيرا مما حرموا منه. لذا نجده يصف نفس الشعب بقوله: 'لكن الشعب المعلم صانع الحضارة راح يلقن طلائعه أسرار آماله الكبرى'. (الميثاق/ الفصل الرابع)، ووضع هذا الشعب في عليين.
من المفيد طرق أبواب أخرى لمعرفة ما آلت إليه الأوضاع بعد رحيل عبد الناصر، والاستفادة من دروسه ونحن نتجه نحو التغيير. ومن المفيد أن نتعرف على حجم وكثافة التحديات وتعدد جبهات المواجهة في الداخل والخارج، ومستوى الإنهاك الذي يتعرض له أي مشروع وطني وكيفية التخفيف من ذلك. وليس من المصلحة التقليل من حجم الأعداء وإمكانياتهم وقدراتهم؛ نتيجة ارتياح البعض وتحميل الرجل في قبره خطايا وجرائم الأحياء. ونظامه هو نفسه الذي كان يسد أي ثغرة ويعالج كل تصدع. وهل كان هناك أكثر جسامة مما حدث في 1967؟ استمر ذلك النظام بإرادة التحدي القوية فيه سدا منيعا أمام السقوط، وعاملا على إحياء المشروع الوطني مجددا من بين ركام الهزيمة.
المشكلة مع عبد الناصر أنه كان الأكثر وعيا بتعقيدات وضعه وواقعه وتحديات العالم من حوله. ولو ركزنا على بعض ما كان في الداخل، نجده الأكثر وعيا بما تمليه عليه مسؤوليته عن الثورة وما تفرضه قيود الدولة واعتباراتها. وأكثر من هذا كان إحساسه بظروفه وظروف ثورته عاليا؛ كان يعرف أنه حمل مسؤولية القيام بثورة دون تنظيم سياسي مدني واسع ومعد لهذه المهمة، فتنظيمه كان عسكريا وحجمه صغير يقدر بالعشرات، وهذه الطبيعة فرضت عليه السرية، فلم تكن له امتدادات شعبية. ولم يستسلم لهذا الواقع، ودفع بكثير من رفاقه للحياة المدنية، وأرسلهم إلى قاعات الدراسة في الجامعات والدورات الدراسية والبعثات العلمية في محاولاته للتغلب على ذلك القصور، وبنى تنظيماته السياسية وهو في قمة السلطة رغم ما في ذلك من مخاطر وسلبيات. واختار من العسكريين أكفأهم ودفع بهم إلى الحياة المدنية واعتمد عليهم في بناء مشروعاته العملاقة، وتطوير العمل السياسي وتحسين الأداء التنفيذي. من نماذجهم كان زكريا محي الدين وعبد اللطيف البغدادي وكمال الدين حسين وعلي صبري وصدقي سليمان ومحمد فايق وشعراوي جمعة وأمين هويدي وحلمي السعيد وسامي شرف وعشرات غيرهم. بجانب استعانته برموز الحزب الوطني القديم، من أمثال شيخ المجاهدين فتحي رضوان؛ أول وزير للإرشاد القومي، وعبد العزيز علي ونور الدين طراف وأحمد الشرباصي، ومن الإخوان المسلمين أحمد حسني وزيرا للعدل وأحمد حسن الباقوري وزيرا للأوقاف، ولا يتسع المجال لذكر العشرات من أكفأ الوجوه والخبرات السياسية والأكاديمية والعلمية والدينية والإعلامية في مصر مثل عزيز صدقي ولبيب شقير والشيخ محمود شلتوت، والنبوي المهندس، ومحمد حسنين هيكل، ومحمد البهي وأحمد زندو.
وقد يكون إخفاق عبد الناصر في إبعاد المؤسسة العسكرية عن العمل المدني نقطة الضعف الرئيسية في نظامه. مع أنه عمل بعد انفصال سورية عن دولة الوحدة، وكان من دبروا الانفصال يعملون ويحيطون بالمشير عبد الحكيم عامر. وكان وقتها مسؤولا عن الإقليم الشمالي بجانب قيادته للقوات المسلحة. عمل عبد الناصر على تغيير البنية السياسية والعسكرية لنظامه بشكل واسع. شكل مجلسا للرئاسة من 25 عضوا، في محاولة لترسيخ مبدأ القيادة الجماعية، وتوسيع قاعدة المسؤولية السياسية، وتصحيح أوضاع المؤسسة العسكرية وإبعادها عن الحياة المدنية وتصدى المشير عامر لتلك التغييرات، ورفض ترك القوات المسلحة، وذهب إلى قريته في الصعيد محتجا ومقدما استقالته، التي وُزعت داخل أسلحة الجيش، وتوترت الأوضاع، فلم يملك عبد الناصر إلا الرجوع عن قراراته؛ تجنبا للتوتر مع المؤسسة العسكرية. وعاد المشير عامر لموقعه العسكري السابق، فتحول إلى مركز قوة واجه عبد الناصر نفسه، ومع ذلك لم يتوقف عبد الناصر عن البحث في سبل تُخلص نظامه من سلبياته وما علق به. واستعد لترك رئاسة الجمهورية سنة 1964 والتفرغ للاتحاد الاشتراكي العربي، واكتست هذه السنة أهمية خاصة؛ فيها تحول مجرى نهر النيل لأول مرة في تاريخه تدشينا للمرحلة الأولى في بناء السد العالي، وفيها تم الإعلان عن برنامج التحول العظيم، وارتياد آفاق جديدة للتنمية والتوسع الرأسي والأفقي في الزراعة والصناعة، بعد نجاح الخطة الخمسية وتحقيقها لأعلى معدل تنمية في ذلك الوقت بشهادة صندوق النقد الدولي، والمصرف الدولي للإنشاء والتعمير. بجانب أنها كانت سنة التركيز على إعداد جيل جديد؛ أكثر وعيا من جيل سبق وأكثر صلابة من جيل سبق؛ على حد قوله. فأنشئ التنظيم الطليعي، وبدأ الإعداد لتنفيذ مشروع منظمة الشباب الاشتراكي، بهدف إعداد ذلك الجيل، وقد أعلنت تلك المنظمة رسميا في تموز/يوليو 1966. هناك معلومات كثيرة ما زالت غير معروفة؛ تعكس جهدا خارقا في ذلك الوقت، أهمه ذلك المتعلق بالمشروعات الاستراتيجية وبالتربية السياسية والأكاديمية والارتقاء بالموارد البشرية ورفع مستوى الوعي بين العمال والفلاحين وصغار الكسبة والحرفيين. وتستطيع كاتبة جادة ومجدة كهويدا طه أن تبحث وتغوص في ذاكرة من بقي حيا من شباب ورجال تلك المرحلة، وأغلبهم ما زال يقبض على الجمر أملا في الخلاص وفي انقشاع ظلمة الاستبداد والفساد والتبعية والإفقار. وإذا ما قَلَّبت في المحفوظات الرسمية والصحفية لوجدت كنوزا تساعدها في فهم ما غاب عن جيلها، ويرد على كل أسئلتها المعلقة.
وثقتي عالية في أن الحوار مع مثل هويدا طه يقرب ويضيف ويصحح ويطور من الأفكار ويعدل ما استقر في أذهان البعض، وبهذه الطريقة نخطو خطوات على طريق الحرية والعدالة والديمقراطية الطويل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق