«من شابه زمانه فما ظلم».. أمّته
في غمرة الأحداث التي تعجّ بها الساحة المصرية، من مرض "الريّس" وشفائه إلى حملة البرادعي الرئاسية مرورا بالحملات التي تدعو إلى تعدد الزوجات للقضاء على العنوسة، فجأة ودون مقدّمات برزت ظاهرة غنائية جديدة وغريبة؛ هي تركيبة هجينة متكوّنة من فنان قادم من عصر الإنسان الأول وكلمات صعدت من أعماق الشارع الشعبي المصري، إنها ظاهرة المطرب المصري "أبو الليف" وأغنياته التي أحدثت انفجارا هائلا في الساحة الفنية المصرية وانتشرت شظاياه إلى كل الآذان العربية.
"أبو الليف".. ظاهرة لم يألفها الغناء المصري والعربي، قناة "ميلودي" استثمرته و"الفيس بوك" ساهم في شهرته؛ نادر "أبو الليف" ظاهرة فنية، قادمة من زمن لا علاقة له بمفهوم فن الزمن الجميل، ومع ذلك لم يكن مفاجئا أن يحقق هذا النجاح الساحق، بل إنه حالة طبيعية ومتوقّعة في هذا الزمن الذي أصبح فيه كلّ شيء غريبا.
هو يجسّد بحقّ حقيقة أوضاعنا العربية اليوم؛ فلكل عصر فنه وثقافته، ونوعه الغنائي الذي يميزه.. وإذا وجد المواطن العربي "الغلبان" في الماضي عزاءه في أغنيات فيروز التي تغنّت بـ"أبو صلاح" بالإنسان العربي البسيط وفي صيحات أم كلثوم وهي تحثّ الجندي العربي على حمل السلاح، وفي "آهات" فريد الأطرش وعبد الحليم حافظ وفي تقاسيم السنباطي وعبد الوهاب وغيرهم، فإنه لم يجد من فناني اليوم من أصحاب المقام الرفيع من يتحدّث عن مأساته مع البطالة والمواصلات والاكتظاظ السكاني والفقر والكرامة المهانة إلا "أبو الليف"، الذي نجح نجاحا مدوّيا لدرجة نفاد الطبعة الأولى من ألبومه فور طرحه في مدة لا تتجاوز الـ24 ساعة؛ ومثلما جاء في زمن الاستسلام عدوية، وحلّ في إحدى أحلك فترات الصراع العربي الإسرائيلي شعبولا "المكوجي"، العربي الوحيد تقريبا الذي قال جهرا وعلى الملأ "أنا باكره اسرائيل"، جاء اليوم، وفي قمّة الوهن العربي، زمن "أبو الليف كينغ كونغ".
في ظلّ التوتّرات الداخلية التي يرزح تحتها الشعب المصري، ومن بين الكمّ الهائل من المشاكل التي تعاني منها المجتمعات العربية، أطلّ "أبو الليف"، "الذي يغني منذ كان في الثالثة ابتدائي، قبل تامر وحماقي"، بـ"لوك" جديد ومختلف تماما، وأصبح في ظرف قياسي نجم النجوم، أشاد البعض بطريقته "المودرن" في مناقشة مشكلات المجتمع، وانتقد البعض الآخر ما يقدّمه ووصفه بأنه عثرة جديدة من عثرات الأغنية العربية.
من الطبيعي أن تجد ظاهرة فنية مثل ظاهرة "أبو الليف"، وقبله شعبان عبد الرحيم، طريقها نحو الانتشار السريع في زمن الردّة الفنية العربية مستندة إلى حالة الرفض التي باتت مستبدّة بالمواطن العربي وهو يتلقّى الضربات المهينة من الداخل ومن الخارج على حد السواء.. فوجد "العزاء" في عبارات من قبيل "أنامش خرونج، تاكس.. عابدين يا سطى، كله بينفسن، بومبة.. فقعتني زومبة، وبراكوتا، ودولا مجانين، ثقة في حد، بصحا الصبح و"ما أنام"، الموجّهة للأطفال،...".
ولكن ليس خطأ "أبو الليف" أنه قدّم أغاني من هذا القبيل، فأزمة الأغنية العربية اليوم لا تتمثل في ظهور الفن "الرديء"، وإنما تكمن في غياب الفن "المعاكس" حتى يتحقّق التوازن المطلوب والطبيعي؛ ومثلما يظهر فن يغنى في "المكروباصات" و"التاكسيات" وفي الشوارع، من الضروري أن تظهر موجة "مطهّرة" لذلك، فن يقدّم في مهرجانات بيت الدين وبعلبك وقرطاج وجرش ويغنى في دار الأوبرا المصرية وعلى مسرح الأولمبيا وفي أكبر مسارح العالم ممثلا الموسيقى العربية..
إن عدوية حين ظهر في السبعينات نجح بالتوازي مع أم كلثوم وعبد الحليم، وحين ظهرت أغاني من قبيل "ماشربش الشاي" أو "العتبة جزاز"، ظهرت في المقابل "المسيح"، و"فات الميعاد" وأنتجت كثير من الروائع التي تغنّت بأبطال تحرير سيناء في إحدى أهم الفترات التاريخية التي جعلت المواطن العربي يرفع رأسه وهو في أوج الاعتزاز بالنفس منتشيا بهذه الثورة السياسية والعسكرية والفنية، عندما كان لا يتردد من الشعارات سوى "إرفع رأسك يا أخي".. أما اليوم فقد انقلبت الصورة وأصبح العربي مطأطئ الرأس من كثرة ما أخفضها، وهاهو يسقط أخيرا في زمن "الخرونج".
وسواء اتفقنا مع كلمات أغاني "أبو الليف" "الفوضوية" أم لا، فلا بد من الاعتراف بأنه "لعبها صح" وعرف من أين يتسلّل إلى قلوب المستمعين العرب، خاصة الشباب، فأغاني "العري" خفّ بريقها، والأغاني العاطفية أضحت مواضيعها وألحانها متشابهة، أما الأغاني "الملتزمة" فقد اعتزلت الساحة منذ زمن، فاختار "أبو الليف" أن يقدّم "فنّا هادفا" وعبّر بكلمات، "سوقية" و"صادمة"، عمّا يختلج لا في صدور المصريين فقط بل وفي صدور كل المواطنين العرب الذين يعانون من الفقر والبطالة والإحباط المزمن، فلم يتحدث عن العيون الساحرة والقوام الفتّان.. بل تحدث عن تكاليف الزواج وأزمة الشقق وسيطرة الحموات.. وعن معاناة الشباب، وعن الكرامة الضائعة، وغيرها من المظاهر التي جعلت الأغنية العربية تنضم إلى جدول الهزائم الأخرى التي يعيشها الوطن العربي في زمن خرج عن المألوف حتى في طرق تذوق الفن.
"نجح" "أبو الليف" لأن كثيرا من العرب وجدوا أنفسهم في كلماته العامية بعد أن جفّت قريحة الشعراء، وحين أضناهم البحث عن "قائد" يتكلّم بلسانهم.. خرج "أبو الليف" بلسان ومعجم لا يفهم من أيّة أدغال استوحاه ولا من أي كهف استنبطه.
لقد فقدت الأغنية قيمتها كإحدى وسائل التعبير في ظل هذا العجز الرسمي العربي وحالة التشرذم والنكبات التي تمر بها أمتنا العربية، وانظروا إلى ما كشفته الانتهاكات الإسرائيلية الأخيرة في الأراضي الفلسطينية، والاعتداءات الغربية المتكرّرة على الإسلام ورسوله الكريم من عزلة للإنسان العربي، وكيف ظهر الانسان العربي في هذه المواقف فارغا لا يملك القدرة على أن يكون صاحب قرار أو وجهة نظر، بعدما لم يجد من يعبر عن مشاعره وأحاسيسه، وأصبح بالفعل "خرونج".. فطوبى لنا بأبو الليف، الذي أكد أنه "مش خرونج" وأنه "كينغ كونغ وبيده المربوطة بيلعب بينغ بونغ".. و"من شابه زمانه فما ظلم".. أمّتهhttp://www.sharekeg.com/reviews.php?pageNum_rsPerson=19&totalRows_rsPerson=297&cid=19.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق