السبت، أغسطس 30، 2008

حقيقة الازدهار الديمقراطي السابق واللاحق في مصر

حقيقة الازدهار الديمقراطي السابق واللاحق في مصر
محمد عبد الحكم دياب

30/08/2008

بدت توابع حريق مجلس الشورى أوسع من حدود المبنى التاريخي، وجاءت على شكل شماتة عمت قطاعات واسعة، وتمنيات بوجود النواب داخل المبنى وهو يحترق، وشكوك في نوايا حكومة رجال المال والأعمال وشلة جمال مبارك، وإمكانية تعمدهم حرق المبنى التاريخي لإخفاء معالم جرائم مقترفة لحسابهم. وتدمير وثائق تاريخية وسجلات هامة تثبت فضائح عدد من المسؤولين. أو لتمكين أحدهم من أرض الموقع الفريد والمتميز، فيستولي عليها ويضمها إلى امبراطوريته وممتلكاته، أو يقدمها قربانا لأحد أباطرة السياحة أو الإسكان الفاخر وسط العاصمة.. لم تتوقف التوابع عند هذا الحد. امتدت إلى التاريخ ذاته وإصدار أحكام عن الوضع الديمقراطي في مصر قبل 1952، فقد نشرت صحف رصينة وتميل إلى الموضوعية في معرض تناول الخلفية التاريخية لمجلس الشورى.. قالت إن قاعة مجلس الشورى تمثل قيمة تاريخية كبيرة، وكانت تضم مجلس النواب قبل ثورة تموز (يوليو) عام 1952 'عندما كانت مصر تعرف حياة ديمقراطية مزدهرة'!! وعلى من يصدر هذه الأحكام أن يرفق بنا وبالذاكرة الوطنية وبالتاريخ. وهل مثل هذا الحكم يأتي ضمن مخطط إلغاء الذاكرة الوطنية والايحاء بإمكانية استنساخ ذلك الوضع 'المزدهر' وإعادة انتاجه من جديد؟ وإذا كان الأمر كذلك فإن الكلام يفقد براءته، أما إذا كان لعدم معرفة فإن الضرورة تقتضي إعادة كشف ما خفي وتوضيحه، مع افتراض حسن النية فيما كتب ونشر، ووضع هذه القضية على بساط البحث يستلزم الخروج من الدوائر الضيقة إلى دوائر أرحب تكون وقائع التاريخ ودروسه أساس الدراسة والبحث.
ومعلوم أن الحياة حقب وعصور وشخوص وأحداث، ولكل منها ملامح وأشكال ومسارات ومقتضيات، ومن تجاربها يصاغ التاريخ وتستخلص العبر. واعتمد طمس الذاكرة الوطنية في العقود الأخيرة على الادعاء على التاريخ بما ليس فيه، وتروج مثل هذه البضاعة في حقب التردي وعصور الضعف. تنشط فيها شخوص الزيف وتطل فيها الفتن، مع أن المفروض أن الأحكام لا تصدر بلا حيثيات، وما هي الحيثيات إذن؟ إذا ارتبط الازدهار بتعدد الأحزاب. في مصر أحزاب أكثر من أن تحصى. تجاوزت العشرين، وتقترب الأحزاب المحظورة والمرفوضة والمجمدة من نفس العدد، إلا أن الحقيقة تقول بأن الحراك السياسي والاجتماعي المتنامي في مصر هيأت ودفعت به جماعات سياسية ونقابية ومهنية وعمالية وفلاحية.. ناشئة أو محظورة ومجمدة. أي من خارج السياق التقليدي للموالاة والمعارضة. وإذا كان المعيار هو التعدد الحزبي فمعنى هذا أن الازدهار ممتد إلى العصر الحالي، وإذا اقترن بوجود احتلال مباشر يسلب البلاد إرادتها فإن مصر مسلوبة الإرادة منذ أن تنازل السادات عن 99' من الأوراق ومنحها للإدارة الأمريكية، وهي تمثل احتلالا جديدا حل محل ذاك الاحتلال السابق، ومعنى هذا أن الازدهار ممتد إلى اللحظة الراهنة كذلك. وإذا كان وجود القصر الملكي وتدخله سمة من سمات الازدهار ففي مصر حل القصر العائلي محله وتفوق عليه، وهذا معلم ثالث قد يطبع الوضع الراهن بالازدهار الديمقراطي مجددا. هل نعيش إزدهارا ديمقراطيا وننكره مثل 'القطط التي تأكل وتنسى' حسب المثل الشعبي الشهير؟ أما إذا كان المعيار هو اتساع الهوة بين الغنى والفقر فقد كان نصف في المئة من السكان يتحكمون ويملكون ويحتكرون الثروات، عادت نسبة قريبة منها وأعادت الوضع إلى ما كان عليه، وإذا كان الحفاء هو سمة ذلك الزمان، الذي كان أقصى المنى فيه هو التشجيع على مقاومته، والسمة الحالية هي صعوبة توفير رغيف للمواطن، وإذا ما رعى نظام الحكم الجهل وزاد الفقر ونشر المرض بأعلى معدلاته العالمية متفوقا على ما كان قبل 1952، فهل معنى هذا أن الديمقراطية أكثر ازدهارا، وأن مقولة صفوت الشريف عن 'أزهى عصور الديمقراطية' صحيحة؟.
ولنقرأ معا بعض ما كان موجودا حينذاك. كانت فلسفة التمثيل النيابي تعتمد على حق هؤلاء الذين وصفهم أحمد لطفي السيد، المعروف بأستاذ الجيل، وهو في حقيقته استاذ الانعزالية ومنظرها وراعيها. وصفهم بـ'أصحاب المصالح الحقيقية' وهم أبناء العائلات والأعيان وكبار ملاك الاراضي الزراعية وأبناؤهم والمتعلمون وأصحاب المناصب، من وجهة نظره. وعليه فإن الأحزاب المصرية قبل 1952 نشأت في ظل الاحتلال، بداية بالحزب الوطني وحزب الأمة، ودون تجاهل راديكالية الحزب الوطني وعدم مساومته في قضية الجلاء، كان دخول الأحزاب إلى المجلس النيابي يتطلب درجة عالية من الاستقلالية، وهو ما لم يسمح به الاحتلال، وحتى بعد ثورة 1919 وحصولها على دستور وصك رسمي (اسمي) بالاستقلال، ونجاح حزب الوفد في أول انتخابات تمت بعد دستور 1923، وسرعان ما تراجعت الأوضاع عقب اغتيال السير لي ستاك القائد البريطاني للجيش المصري 1924، وعلى أثر ذلك اعتقلت السلطات خمسة من النواب، من بينهم اثنان من أبرز أعضاء المجلس، هما عبد الرحمن فهمي ووليم مكرم عبيد، وواكب هذا التراجع ظاهرة الأحزاب التي ينشئها القصر ويرعاها الاحتلال للسيطرة على البرلمان. وقف الملك فؤاد سندا لقيام 'حزب الاتحاد' ليدخل به انتخابات أذار (مارس) 1925 بمرشحين يعلنون صراحة أنهم من رجال القصر ومؤيدي الملك، وبذل المندوب السامي البريطاني مع أحزاب الأقلية: الأحرار الدستوريين، والوطني، حزب الاتحاد جهودا مضنية، وجاءت النتائج تعلن تعادل الوفد مع الأحزاب الأخرى، وكانت المفاجأة في وقوف النواب المستقلين والمترددين إلى جانب سعد زغلول فانتخب رئيسا للبرلمان، وتم حل المجلس وفض فصله التشريعي في نفس اليوم، وكانت جلسته الأولى هي جلسته الأخيرة. وبين إعلان نتيجة انتخاب رئيس المجلس، في الواحدة ظهرا وما تبعها من ارتباك، وإبلاغ المجلس بمرسوم الحل في الثامنة إلا خمس دقائق مساء نفس اليوم، سجلت الحياة النيابية في مصر أقصر مدة لمجلس نواب، في حادثة تبدو الأولى في التاريخ.. عاش رسميا أقل من سبع ساعات بخمس دقائق. وبعد إلغاء دستور 1923 واستبداله بدستور 1930 أسس اسماعيل صدقي 'حزب الشعب' ودخل به الانتخابات التي جرت على أساس الدستور الجديد المعروف بدستور صدقي، وتولى وزارة الداخلية للتحكم في نتائج الانتخابات وهو ما حدث بالفعل، وتمكن صدقي من تحقيق ما يريد القصر والاحتلال، زادت معدلات التدهور مع اللجوء إلى التزوير، وهو ما تعاني منه الانتخابات حتى الآن. وأول حكومة لجأت إلى التزوير كانت حكومة محمد محمود سنة 1938، وحصل الوفد على عدد من المقاعد يتجاوز أصابع اليدين بقليل، وهذا مسجل في كتاب 'قصة البرلمان المصري' للمؤرخ يونان لبيب رزق الصادر عن دار الهلال بالقاهرة. واستمر التداعي إلى أن طال الوفد ذاته. ففي 4 شباط (فبراير) 1942، قبل زعيم الوفد تأليف الوزارة تحت حصار الدبابات البريطانية لقصر عابدين، وفيه خير المندوب السامي الملك فاروق بين التنازل عن العرش أو تكليف النحاس بتشكيل الوزارة، في وقت كانت المعارك الضارية محتدمة بين الألمان والبريطانيين بالقرب من منطقة العلمين المصرية، القريبة من الحدود الليبية، وخوف المندوب السامي من زحف القوات الألمانية نحو القاهرة، وكان على النحاس أن يرفض، وما دام قد قبل كان عليه انتزاع الكثير من سلطات الاحتلال في موقفها الضعيف بسبب الحرب وأهمية موقع مصر بالنسبة للحلفاء، الذين كان يهمهم الانتصار في معارك صحراء مصر الغربية. ووصل الحال بالنحاس بأن قبل بوضع علي ماهر رئيس الوزراء الأسبق وعضو مجلس الشيوخ على القائمة السوداء للسلطات البريطانية، نتيجة شكها في ميوله نحو الألمان، وتبع ذلك بالموافقة على وضع علي ماهر في الإقامة الاختيارية في عزبته، وعندما غادرها إلى القاهرة صدر الأمر باعتقاله، ولما فر من الشرطة محتميا بمجلس الشيوخ لما يتمتع به من حصانة حاصرته قوات الأمن حتى سلم نفسه وأودع السجن. عانت الحياة النيابية من التدخلات المستمرة، إلى أن أصيبت بالشلل. وحزب الوفد لم يتمكن من تقلد الحكم على مدى ثمانية وعشرين عاما سوى أقل من سبع سنوات متقطعة. وما نود أن نقوله أن الحكم على الأحداث لا يجب أن يصدر جزافا أو لهوى في النفس، والتعرف على ما كان يجري. وخلال تلك الحقبة لم يظهر من بين 'أصحاب المصلحة الحقيقية' عامل أو فلاح أو تاجر صغير ولا صاحب محل أو ورشة أو حرفي أو موظف صغير أو صاحب دخل محدود، أو ممن أطلقت عليهم الثورة الجزائرية بعد انتصارها 'صغار الكسبة'. ليست هذه هي الديمقراطية. إنها قشور الأيديولوجية التحررية (الليبرالية)، تمارس بين جماعات ضيقة للغاية، وإن ضمت في السابق عملاء الاحتلال وأتباع القصر وأحزاب الأقلية، فهي تجمع حاليا تحالف الاستبداد والفساد والتبعية. يقوده جمال مبارك ومعه طاقم المفسدين في الأرض، وينطبق عليهم قول المفكر البريطاني هارولد لاسكي منذ أكثر من سبعين عاما. بأنهم يحاربون آخر معاركهم، ومن يحارب من أجل البقاء لا يجد وقتا لممارسة عادات وتقاليد البحث والنقاش والمشاركة، واستخدام العقل وممارسة التسامح وحرية الرأي والعقيدة، ودعوة الناس للمشاركة السياسية، وكلها كانت مرتكزات التحررية 'الليبرالية'، التي صارت لا تتحمل المعارضة أو النقد، وتعجز عن تأكيد حق المواطن في مناقشة وإقرار المبادئ الأساسية للنظام الذي يعيش فيه، وتوحشت وبطشت وضربت بالقوانين والأعراف والنظم والمبادئ والتقاليد ومصائر الناس عرض الحائط. وخلاصة القول علينا النظر إلى داخلنا وإلى ما حولنا ولسوف نكتشف أن الفاشية هي المتحكمة في شؤون الداخل والعنصرية أضحت لها الكلمة العليا في محيطنا العربي والإقليمي، شطبت فلسطين من الخريطة وتفعل نفس الشيء مع العراق، وكلاهما استقر على حماية مصالح ما سماهم لطفي السيد 'أصحاب المصلحة الحقيقية'، ومن أجلهم استدارت تحطيما في المؤسسات والهيئات العامة، اقتصادية ومالية وسياسية وعلمية وأكاديمية وصحية، والمنظمات المدافعة عن حقوق المظلومين والفقراء ومتوسطي الحال والطبقات العاملة، والأحزاب العمالية والاتحادات الأهلية والجمعيات التعاونية. المنشأة لخدمة الطبقات العاملة والمتوسطة. علينا أن ننظر حولنا ولسوف نكتشف الحقيقة.. وهي مرة مرارة العلقم.

ليست هناك تعليقات:

واقع الحقوق والحريات في تونس يتسم بـ"الهشاشة " وذلك لسببين أولهما الجانب التشريعي في البلاد وثانيهما الممارسات السياسية على أرض الواقع.

  واقع الحقوق والحريات في تونس يتسم بـ"الهشاشة " وذلك لسببين أولهما الجانب التشريعي في البلاد وثانيهما الممارسات السياسية على أرض ...